الانتحار: بين الرغبة في الخلاص والعجز عن المواجهة

الانتحار، تمني الموت، الرغبة في الخلاص بالقتل الطوعي للنفس … قد يكون سبب كل ذلك عدم القدرة على الاندماج الاجتماعي، عندما يحس الفرد بالاغتراب عن مجتمعه وأنه عاجز كليا على مسايرته، وأن المتطلبات التي يفرضها عليه واقعه أكبر منه ومن قدراته.. هذا المجتمع الذي ينتمي إليه غير قادر على استيعاب طموحاته وشخصه عموما بكل تناقضاته، عندما يُفرض على المرء أن يعيش في بيئة لا تلائمه فإن النتيجة تكون بالانعزال والتقوقع على النفس مما قد يولد أمراضا وعقدا نفسيا غالبا ما تؤدي إلى تفكيره في خلاصه من نفسه ظنا منه أنه الحل الوحيد المتوفر لديه.

يعود الانتحار أحيانا إلى ثقل العوامل الاجتماعية وقسوتها ناهيك عن هشاشة التكوين النفسي وعجز الذات الإنسانية عن تحمل كل تلك المتغيرات الخارجية والتفاعل معها، ومن ثم من وجهة نظر اجتماعية تطرق السوسيولوجي الفرنسي إميل دوركايم في كتابه ” الانتحار” عن أهم عواملها المتغلغلة في جل المجتمعات بمختلف أنماطها الثقافية ومستوياتها الاجتماعية، والذي توصل إلى أن الانتحار راجع إلى سلطة المجتمع على الفرد، وإلى ضعف الرابط الاجتماعي حيث أشار أن العزاب أكثر عرضة للانتحار من المتزوجين والمرتبطين وأن المجتمعات المتماسكة تقل فيها نسبة الانتحار عكس ما يسود في التي تتسم بالتفكك والفردانية.

إن تماشينا مع هذا الطرح يؤكد بالفعل أنه يمكن للرابط الاجتماعي الضعيف أن يشعر الإنسان بنوع من الفجوة بينه وبين المجتمع الذي ينتمي إليه، يحس في اللحظة التي يقرر فيها الاندماج مع مجتمعه وتبني نفس الأفكار حتى يتماشى والقواعد المسطرة من طرفه بنوع من الحسرة غير قادر على الانصهار معه ويقرر التراجع وأن ينتبذ من العالم مكانا قصيا ينزوي فيه.

إن الانتحار في معناه الواسع يتجاوز مجرد إزهاق للروح والتخلص من الحياة عن عمد، قد يكون شكلا من الاحتجاج على أنه أكبر من أن يعيش في حياة لا تثيره، حياة كلها تعنت، لئيمة هي مهما عافر لأجلها لا تلقي له سوى بالفتات الذي بالكاد يسد رمقه، وهو الذي لطالما عمل بكل ذرة فيه، سخر كل طاقاته لأجل نيل ما تصبو إليه نفسه التواقة إلى المعالي، الحريصة كل الحرص على الارتقاء في أعلى المقامات بغية صنع ذاته وتحقيق ما قد يكسبه احترام الجميع له وكذلك ارتداء ما يأتي على مقاس قيمته من مكانة اجتماعية متميزة تليق به كإنسان خلق ليعيش بكرامة وأن يحظى بتقدير وامتياز بالغين من طرف أفراد المجتمع المنتمي إليه.

الإنسان بطبيعته طموح وذو نفس تهفو دائما إلى طلب المزيد، فيبذل من أجل نيل مرضاة مجتمعه جهدا جهيدا ويأخذ بكل الأسباب المتوفرة يسهر، يتعب، يجتهد، يشمر على سواعده ويعمل حتى يفصد العرق من جبينه حتى يحدودب ظهره، وتتهشم عظامه…ويشيخ ويهرم جسده حتى تعلوه التجاعيد ولو في سن مبكرة، قد تصيبه شتى الأسقام فقط لأجل إيجاد ذاته الضائعة، يحاول ويسعى كل لحظة حتى تتورم قدمه وتعتليه كل الندوب حتى يغدو إنسانا مشوها من شدة ما كسرته الحياة وما خلفته فيه، يعاند ويكابر رغم كل شيء رغم القبح المستشري في واقعه، رغم ضعف الإمكانيات، يظل يحاول حتى يصل إلى النهاية.. نهاية الرحلة فيقرر الخلاص بطريقة ما فيجد في الانتحار حلا وحيدا خاصة عندما تطال الهزيمة هذا الشخص وتعمى بصيرته.

مقالات مرتبطة

أتساءل في سري كل حين أيعقل أن نجن؟ نبذ المجتمع لنا ما يفتأ يغادر تفكرينا، أيعقل أن نصاب بالجنون من فرط الفواجع التي نراها كل يوم، من الخيبة تلو الخيبة؟ نتكئ على انكساراتنا حينا وعلى جراج الوطن حينا آخر أيمكن بالفعل أن نفكر بالخلاص بأقل الطرق ضررا، أن نرى في الانتحار حلا وحيدا أوحد، أن تدمى أيادينا ونحن نطرق أبوابا نتوسم فيها النجاة فنعود أدراجنا كل مرة نجر ذيل الخيبة الذي أثقل كواهلنا.

هل الخوف من أن تتحول هزائمنا إلى كدمات يتعرف عليها القاصي والداني سيدفعنا لوضع حد لحياتنا؟ أيمكن أن نفقد عقولنا ونهيم في الشوارع كالمجانين بإيهام أنفسنا أننا قادرون على المواجهة؟ كيف نغض الطرف عن من سرق أحلامنا وحولها لمسرحيات هزلية ليرسم الضحكات على الذقون بكل لؤم، من حول أحلامنا لنكت ساخرة ليلعب ويرتع على حساب جراحنا التي نزفت كثيرا، من قلص أمانينا البسيطة ومدد رقعة تهكمه علينا، من اختصر عقولنا في ريشة مثقلة بالألم تطير لتسقط على إحدى زوايا الشارع المقفرة.

أاعتيادنا على أن نكون أفراحا مؤقتة، هلعة، فزعة،.. خوفنا الدائم من أن الحياة لن تكون سخية معنا البتة ستجرعنا المرارة في كل مرة، عجزنا عن احتضان أنفسنا بأنفسنا… ألهفتنا لسند حقيقي جعلنا نختار الانتحار لأننا هرمنا وخارت قوانا وما عاد بمقدورنا أن نواجه، فقدنا القدرة كليا على المواجهة، كيف سنواجه بعد كل تلك اللكمات على وجوهنا والطلقات التي صوبت على قلوبنا المرهفة محولة إيانا لشظايا متناثرة فقط لبقايا أشلاء؟ هل نجمع ما تبقى منا ونقتل أنفسنا بدعوى أن ربنا رغم كل شيء سيكون أرحم بنا من هكذا مجتمع من هكذا حياة أليمة.

كومة من الأسئلة تدور في ذهني، كل التبريرات أجدها عقيمة، ناقصة، مبتورة… لا شيء يمكن أن يبرر فعل الانتحار، لا يمكن رغم كل ما آلت إليه أمورنا وكل السوء الذي علق بنا، أن نختار الانتحار أن نكون أسرى لذاك الصوت الخفي الذي يهمس لنا في كل حين ويزين لنا ذاك الفعل الشنيع في حق أنفسنا، ليس علينا أن نخضع له ونخنع، إنه أكبر خطيئة يقوم بها الإنسان كما قال الروائي والكاتب الروسي الكبير فيودور دوستويفسكي، إنها أبدا ليس تلك الراحة المنشودة التي طالما جاهدنا ونحن نبحث عنها، بل قد نلقى جحيما أكثر من هذا الذي قبعنا فيه، الانتحار جريمة في حقنا في حق تلك الروح التي أودعها الله فينا، عندما تختفي سحب الإيمان ويجف فؤادنا من التقوى ويتحجر ويربط قيمته بإنجازاته ولا نضع في حسابنا أننا خلقنا لغاية محددة هي العبادة فقط وأن المطلوب منه هو السعي ولو لم ندرك النتيجة.

قد يظن من ضاقت عليه الدنيا وتقطعت به كل السبل أن الموت هو أفضل الحلول وأيسرها، يحسبه الخلاص من كل شيء ونهاية لطريق صعبة ووعرة المسالك وراحة من الدنيا وشقائها، إن الدنيا ما هي إلا دار تعب ونصب لا ولن تكمل لأحد، وبالتالي علينا أن نروي أفئدتنا بالإيمان وتكتسي نظرتنا إيجابية، ونتزود بالصبر ونسير في هذه الحياة راجين رحمة الله وثوابه على كل ما تجرعناه رغم المساعي غير الواضحة، إن أصابتنا ضراء نصبر ونحتسب الأجر عنده سبحانه وأن العوض عن كل ما ألم بنا قادم لا محالة واليسر يأتي مع العسر ومن المحال دوام الحال، وحياتنا كلها لله ولنا يقين تام بأنه سيرأف بنا مهما طال بنا المسير في مسالك الدنيا العصيبة، اللهم ارزقنا الصبر واهدنا وسددنا وقنا شر أنفسنا وارضنا بأقدارك وثبت قلوبنا على طاعتك ودينك ولا تقبض أرواحنا إلا وأنت راض عنا يا رحمن يا رحيم.

1xbet casino siteleri bahis siteleri