مخلفات الوحدة

أقف في مكاني المعتاد، المكان الذي تستيقظ فيه مواجعي، أحملق في الحي الذي ترعرعت فيه حيث عشت أروع لحظات طفولتي، حيث كنت ألعب وأرتع غير آبهة بما ستحول إليه أموري فيما بعد، نتشارك وجاراتي كل شيء الطعام، الملابس حتى الأفكار والمعتقدات كانت أبهى لحظاتنا أن نتسلل إلى بيت إحدانا ونتناول خلسة شطيرة السندويتش بنهم، تقسمها لنا الكبرى فينا فتأخذ دائما لنفسها القسط الأكبر ونرضى نحن بالقليل، كنت أقرب إلى إحداهن دون سواها كانت تغدقني بحبها، أحببتني بصدق كان ذاك جليا في كل تعاملاتها معي، تأتي لتأخذني من المدرسة، ولا يمر عليها يوم لا تزورني فيه.

كانت أياما جميلة أسترجع الآن ذكرياتها الموجعة وينتفض قلبي، أشعر أن خناجرا حادة غرست في شغافه، كيف انتهى بي المطاف إلى هذا الحال، كيف بت وحيدة هكذا، نعم فقد خلا الشارع من كل من تقاسمت معهم طفولتي ومراهقتي، خلا إلا من سواي، كيف للحياة أن تعاملني بهذه القسوة أكنت أستحق كل هذا؟ هان عليها أن تجرعني الوحدة إلى هذه الدرجة الموحشة؟ أقف الآن قبالة الأسطح المتراصة مع بعضها قبالتي وأتذكر كم مرة جلسنا نتسامر هناك وكم مرة تجاذبنا أطراف حديث لم يكن ينتهي إلا بوعيد أمي بعقاب شديد إن لم أعد حالا إلى المنزل.

نعم لقد صرت الآن وحيدة، تعصف بي الذكريات على الشرفة، أملك صورا تبعثرت في أرجاء الذاكرة وأحلم بلحظة اللقاء. كيف سارت الأمور هكذا متى آخر مرة جمعني اللقاء بهن؟ أذكر قبل أشهر زارتني إحداهما لم أراهما قبل عامين تزوجت إحداهما إلى إحدى دول الخليج والأخرى في مدينة بعيدة، انقطعت اتصالاتنا رغم محاولاتي المتكررة لإنقاذ بريق الطفولة الذي أرجو أن يشع مجددا بعد أن خفت وميضه لردح من الزمن، عندما سمعت بموعد زيارتهما قمت مسرورة وتملكني ارتباك غريب، قمت لأرتب البيت جيدا وأقتني ما لذ وطاب من الطعام. أتساءل كيف تغير الحال إلى هذا الحد؟ تلك التي لم أكن أتوانى من إظهار طبيعتي لها كما هي أستقبلها بملابس البيت، والفوضى العارمة التي تجتاح ثنايا المنزل أو أجلسها على كرسي في المطبخ وروائح الطعام تعج في المكان، دون أن تتملكني ذرة خجل جراء ذلك، كيف غدت الآن شخصا غريبا علي أن أظهر بجانبها بأبهى حلة، حاولت عند لقائهما استرجاع بعض من الحكايات التي جمعتنا، لكن كانتا غريبتان بالنسبة لي، تتحدثان في أمور أكبر مني وأقوى من فهمي وإدراكي، أمور حول الولادة والرضاعة وتربية الأطفال… ألتزم الصمت أعود وأحكي عن حدث جمعنا في طفولتنا حتى أقلب دفة الحديث وأجذبهن عندي ويحمن حولي كما كن يفعلن سابقا عندما ألقي على آذانهن تلك النكت السخيفة فأسمع قهقهاتن تعلو في الأفق، كن يضحكن ولو لم تكن النكت مضحكة ربما من شدة حبهن لي، فعندما تحب أحدهم يصبح لكل شيء نكهة مختلفة كل ما هو عادي في نظر المحب يصبح استثنائيا، لكن أين اختفت كل تلك المشاعر؟ كيف يهون عليهما أن يتجاهلانني هكذا؟ هل علي أن أعاتب نفسي لأني أعيش على ذكريات الماضي أم أن لي قلب هش يتعلق بالأشخاص أكثر من اللازم.

رحلتا وعدت أنا أتوسد آلام ومخالفات وحدتي، عدت أفتش عما يمكن أن يعتقني من هذا الوضع المزر، أبحث عن كتف صديقة في هذا العالم الجارح البارد كالموت، صديقة واحدة فقط، لي صديقة غالية على قلبي هي كل ما جدت به الحياة علي ولكنها بعيدة.. بعيدة جدا محادثتنا اليومية لم تعد تشبع حنيني وتوقي إلى لمسة حانية منها، إلى أن نمارس سخف الهمس قريبا من الآذان ونجرب الضحك عاليا من جديد ونحمل أكواب الشاي ونشرع في كتابة خططنا التي لم نلتزم بها يوما، أريد أن أجرب الإفشاء بكل ما يملؤني، إفشاء كل شيء مهما بدا سخيفا ولا يستحق، أريد أن أعود إلى الحياة من جديد ولكن لا سبيل إلى ذلك وهذا ما يقتلني، كنت أريد أن أشعر بالدفء وأني شخص ذو قيمة، شخص مهم أعطي الحب بسخاء وأجد من يبادلني ذلك دون شروط، لكن الأمر غير ممكن لا أدري لمَ؟ لِمَ تأتي الخسارات بشكل مباغت ومتوال؟ كيف رحل عني الجميع وتركوني أتجرع كميات كبيرة من الوحدة؟ كيف رحلوا هكذا فجأة وأصبحت وحيدة لا رفيق يربت على كتفي ولا حبيب يهمس في أذني أنه لا يليق بي سوى استئناف المسير نحو أحلامي البعيدة؟ كيف سرقت الحياة مني كل من شاركتهم محبتي وتقاسمت معهم كل ما أملكه؟

كيف يتحول من شاركني كل شيء الطعام والملبس وحتى غرفة النوم إلى اسم يطرحه فيسبوك ضمن قائمة أشخاص قد تعرفه؟ يا له من سخف أعرفهم بل كانوا جزءا مني كانوا كل دنياي. أتساءل لم أنا وحيدة لهذه الدرجة لم لا أملك من يمكن أن أتصل به وأبكي بحرقة بعد منتصف ليلة باردة بعد أن توسدت السهاد وطرد النوم من جفني، وبعدما زارتني الخيبات والهزائم المتراكمة على حين غرة ويأتيني صوته الدافئ مطبطبا علي مهونا مشاق الدنيا على روحي الواهنة دون أن يشعر بانزعاج أو امتعاض من اتصالي في ذلك الوقت؟

كيف يتعب الإنسان من كونه إنسانا يحتاج من يشاركه أفراحه وأتراحه، كيف يمكن أن أمضي حياتي وحيدة هكذا دون من يخفف علي ثقل الحياة ويهون علي طول الطريق، كيف يمكن أن تصير أقصى أمنياتك أن تعثر على من يسكنك ويعيش فيك ويصلح ما أفسدته الحياة في عينيك. لم صارت العلاقات مؤذية وباردة إلى هذه الدرجة؟ هل صرنا نبحث عن نسخ تشبهنا أم أن الأمر راجع لكون لا أحد يهتم ببؤساء مثلنا؟

الأمر العصي على الفهم أن تكون غارقا في النعم ومن حولك كل ما يدعو إلى سعادة عارمة ولكنك تنزف وحدة وألم، الجميع يعتقد أنك تتقلب في النعيم بينما أنت عكس ذلك تماما، أنت في حاجة ماسة إلى من يقيمك ويرممك في الوقت الذي كنت فيه آيلا للانهيار والندوب تعتلي دواخلك. لقد طال الأمر وأنا في هذا الوضع، امتلكت مشاعر فياضة كان علي أن أصرفها فيمن يستحق ولكن لا يوجد، لم أعثر على من يستحقها بجدارة، قبعت طوال عمري في دائرة الانتظار، ألوح للمغادرين أستقبل العائدين، تمر سنوات عمري وأنا لا زلت على هذا الحال أنتظر، أودع أحلاما وأعانق إخفاقات تصلني من بعيد فتطيل مكوثها معي إلى مدد غير محددة.. جلست دائما في مفترق طرق أنتظر وأنتظر.. ماذا أنتظر لا أعلم، أن يحدث ما قد ينقذني من شتات الأمر والتفكير، من يأخذ بيدي وينقذني من حياة التردد واللايقين إلى الطمأنينة والأمان، أجلس أنتظر عل شخصا رحيما يمر علي فيرأف بي ويشفق على حالتي المزرية ويأتيني فيقرر مجالستي، لقد انتظرت كثيرا ولكن ما من شيء يستحق، أدركت وبعد فوات الأوان أن انتظاري لم يجنِ علي سوى ملامح باهتة وجسدا منهكا وروحا مهترئة وقلبا صدئا، فعلا لا أصعب من البقاء معلقا عند مفترق طرق.

لكن لم نكابر ولماذا نهرب؟ لماذا لا يمكن أن نقول لكل من يعني لنا أننا نحبه كثيرا ونريده بالقرب منا؟ ولكن هل سيتحقق ذلك، إنها أمنية صعبة المنال لكن يكفي أننا حاولنا، حاولنا التعبير عما يخالج صدورنا تجاه الأشخاص الذين نحبهم، يكفينا شرف المبادرة بالاعتراف بما نحمله من مشاعر رقيقة تجاههم، كيفما كانت ردة فعلهم لا يهم، ما يهم حقا أن نمتلك ثقافة الاعتراف بالحب وننشره ونعبر عنه كلما سنحت لنا الفرصة ولا بد سيأتي يوم وسنجد من يكن لنا مشاعر حب حقيقية ولا يهاب الاعتراف بها والتعبير عنها بصريح العبارة.

1xbet casino siteleri bahis siteleri