مذكرات.. في أقاصي الريف

لا أدري كيف سأبدأ تدوين مذكراتي وتوثيق تجربة حسبتها فريدة من نوعها، كعادتي دوما أتخبط في البداية، الأمر غير منوط ببدايات كتاباتي فقط بل في معظم بدايات تجاربي الحياتية، حيث أجد نفسي في مفترق طرق غير قادرة على اختيار ما قد يلائمني ويأتي على مقاسي فكل الطرق المتاحة أمامي ليست مواتية البتة.

أتيه في غمرة الاختيارات التي لم تلقَ استحسانا عندي، هذا ما حدث عندما تم الإعلان بعد طول انتظار عن أماكن التعيين وبصفتي الأولى على المستوى الإقليمي امتلكت ترف الاختيار، اختيار الأنسب لي، جف ريقي من الانتظار ولكني فجعت بعد أن وقع نظري على أسماء تلك المناطق، بحثت في شريط ذاكرتي عن شيء يشي بأني قد تعرفت على بعضها أو على الأقل على وميض يمكنني من لمح صورة منطقة من المناطق المعلن عنها علني أهدئ من روعي قليلا، بعض الأسماء باتت مألوفة وبعضها لم يتناهَ إلى مسامعي قط، وضعت الهاتف على الوضع الصامت ضاربة عرض الحائط اتصالات زملائي ورسائلهم راجين مني حسم أمري في الاختيار ليتسنى لهم بعدي أن يختاروا ما راق لهم. نفسي لم تكن على استعداد للتفوه بكلمة ولا التجاوب معهم لأن ذلك سيزيد الطين بلة ويغرقني في بركة أحزاني.

انزويت على نفسي وانخرطت في موجة بكاء طويلة، أخبرني فيما بعد قريبي الذي شهد على حالتي تلك أنت استغرقت ما يقارب ساعة ونصف وأنا أجهش بالبكاء ثم قررت بعدها أن أنصاع لشرودي الصاخب، كان يعتمل في دواخلي أحاسيس متضاربة، فتارة أعود إلى رشدي أمسح تلك الدموع التي تطفر بغزارة من عيني وأقرر مواجهة مصيري كيفما كان حاله، وتارة أخرى أجهش بالبكاء وتجذبني مغبة الحزن، ينبلج بتخوم ذاكرتي كل خساراتي قبل هذه، فالأحزان لا تأتي فرادى كما المصائب كما يحدث أن الحياة تصفعك بكل شرورها مرة واحدة، هكذا غدوت أتقلب في أحزاني التي تسارعت في الانقضاض علي بشراسة، تقضم شغاف قلبي بشراهة مفرطة وكأنها كانت تنتظر بفارغ الصبر تلك اللحظة الموعودة.

لم يرتق النوم أجفاني تلك الليلة فقد تقلبت في فراشي كثيرا وكأني قطعة لحم تطبخ على نار هادئة، طفق في تلافيف ذاكرتي كل ما كابدته لأجل هذه اللحظة، لحظة ارتيادي المدرسة لأول مرة، لحظات نجاحي وفشلي وإخفاقاتي، حسرتي على عمري الذي مضى في غفلة مني، تجاربي التي توجت بفشل ذريع وأخرى القليلة التي نالت نصيبها من النجاح، أحلامي المبتورة والتي قذف بأطرافها في ركن قصي من ذاكرتي، أمنياتي المنسية تلك الأماني الكبيرة من واقعي التي كنت وبسذاجة مفرطة أغذيها حتى انقلبت علي وباتت تقتات مني حتى حرمت نفسي من الحلم وما عدت أحلم بشيء يكفيني ما خسرته حتى هذه اللحظة. تقول شمس الجزائر الكاتبة والروائية أحلام مستغانمي:

“ثمة خسارات كبيرة إلى حد لا خسارة بعدها تستحق الحزن”.

قررت أخيرا بعد ليلة ضارية مع مخاوفي وعد خساراتي وخيباتي أن أضع نفسي في المواجهة، مواجهة الأمر الواقع فلا مناص من الهروب هذه المرة، الاختيار غدا أمرا محتما علي ولا بد من معافرة عبثية هذه الحياة التي ما لمحت منها من بصيص أمل أنفثه في شعاب روحي المتعبة إلا واسترجعته مني بوحشية وبطريقة ضاربة في الانتقام. اخترت وأخيرا سلمت أمري لله وآمنت أن الله قدر علي خوض تجربتي الأولى على أرض تلك المنطقة، التي لقيت استحسانا مني مذ وطأتها قدمي، أو هكذا أقنعت نفسي فقد كنت أمني نفسي بأني سأألف الحياة فيها بعد حين وهي العبارة التي ترددت على مسامعي من كل معارفي، كان يمزق نياط قلبي بذاك السؤال الذي بات معتادا بالنسبة لي والذي لطالما تحاشيت من يمكن أن يردده علي، سؤال أين عينتِ؟ كلما خرج من فاه أحدهم استثقلته واستثقلت صاحبه حتى ما عدت أستلطفه، وأكثر ما أشعل فتيل مواجعي أمارات الدهشة مشوبة بشفقة مصطنعة على ملامح وجوههم كلما طال جوابي أو سبقتني تلك الدموع التي تطفو من قعر عيوني احتجاجا على سؤال قض راحتي وسلبني ترفا مؤقتا قذفته لي الحياة الماكرة، وها هي الآن تستعيد بكل لؤم ما جادت به علي من فتات.

يحدث أن تهدي الحياة إليك الشيء الذي تحب، في المكان الذي تكره. لطالما أذهلني منطق الحياة، هكذا أفصحت أحلام مستغانمي التي أخذت حفنة من إعجابي بمجرد تناولي لسيرتها الروائية أصبحتُ أنتَ بعد قطيعة دامت طويلا، بالفعل يحدث أن تحب ما تكره وتكره ما اجتهدت في نسج خيوط الحب حوله، أخذتني دهشة غريبة، بالفعل صدقت يا أحلام، منطق الحياة مذهل، كيف جئت للممارسة ما أحب، مهنة لطالما تغنيت بها قرأت عنها كثيرا بل وكانت أقرب إلى ما شيدته في صروح مخيلتي من أحلام، مخيلة متخمة بأحلام كثيرة جلها لم يقدر لها أن تحيا فبترت وهي ما تزال فتية، بترها واقع مزر اعتاد على بتر كل حلم لا يوافق هواه بمقصلته التي لا ترحم، مهنة هي ما كل ما تبقى لي في تلافيف ذاكرتي التي غدت خالية من كل الأحلام، كان عزائي الوحيد وأنا أواجه مصيري في هذا المكان أنني جئت لممارسة ما أحب، فكان بحق ذاك ما يهون علي مشقة التفكير في كيفية مواصلة الحياة هنا.

ضربت موعدا مع أحد أقاربي ليرافقني إلى البلدة التي وقع اختياري عليها لعدة أسباب، لعل أهمها توفرها على سبل حياة مواتية. ركبت السيارة وأسئلة كثيرة تتقاطر علي مشاعر يشوبها خوف يجتاح تخوم جسدي، السيارة تجوب الطريق بسرعة مفرطة، يعتلي جبهتي ألم فظيع وكأن يدا ضخمة ترج رأسي بمطرقة حادة، أحسست أن أفكاري تتشظى وأن ألما حادا يحفر جدران جمجمتي، وأستشعر تعبا يرسو على جسدي ويجعل تلفتي إلى ما تبقى من الطريق أكثر ألما، أقاوم الألم، وآثار الدوار الذي بدأ يرخي بظلاله على جسدي المنهك لا مجال للانهيار الآن محتم علي أن أثبت وأتصنع القوة، دموعي تنسكب بحرارة من داخلي، دمعة باغتتني عاندت رغبتي الملحة في تجنب البكاء في هكذا مواقف وساحت بكل سخاء على خدي البارد، أحاول أن أغمض عيني إلى حين الاقتراب من البلدة، تداهمني خيالات عديدة مرة أخرى عن حياتي، هزائمي، خيباتي أمانيّ المنسية وكل ما جنيته على نفسي… منعرجات الطريق تحول دون الانغماس في ما ينكأ القلب وكأنها تنقذني من نزيف الذكريات وأوجاع تركت ندوبا عميقة في شعاب روحي ولن تمحى أبدا.

يتملكني الفزع في كل منعرج تمر به السيارة فالطريق غير ممهدة البتة، صعوبة أخرى تنضاف إلى كمية المصاعب التي سيُحتم علي مجابهتها، يلهج لساني ببعض الدعوات لتلهمني شيئا من القوة، نقترب من الوصول أحمد الله وتنفرج أساريري، بدا الألم وكأنه يتلاشى ويختفي أو ربما هكذا خيل لي، تختلجني أحاسيس متضاربة فبين جلال الجبال ووحدة البلدة الصغيرة التي تظهر في المنتصف تضطرم جذوة الحنين إلى بيتي في مدينتي تارجيست، إلى التفكير في أنني سأحمل متاعي مرة أخرى وأغادر. وضع ما عدت أطيقه بعد قضاء ست سنوات في مدينة بعيدة قصدتها عبثا لما يسمى بتحقيق الذات.

بلدة صغيرة تطبعها بساطة مفرطة وهدوء قل أن عايشت مثله، الأمر الذي صبغ تلك الصورة القاتمة التي تكونت في ذهني عن هذا المكان، ففي حياتي الصاخبة كنت أكثر ما أنشده هو الهدوء سعيت حثيثا لإيجاده، وها هي الحياة مرة أخرى تجود علي وتمنحني أكثر مما آملته في مراحل كثيرة من حياتي، يقول الروائي المغربي طارق بكاري: “ستدرك يومًا بأنكَ ثريٌّ بما خسرتهُ لا بما جنيتهُ، وأنكَ سعيد بما ستحقِّقه لا بما حققته، ستدرك أن الحياة تهبُ بقدر ما تنهب” وكم نهبت منّا حتى استعصى علينا عد خساراتنا.

ما يميز البلدة هو وجود منازل ذات طابع عصري لكن تتخللها كذلك منازل تقليدية ولكنها قليلة، سعدت في قرارة نفسي بشدة بهذا الأمر فوجود بيوت ذات بناء عصري سيجنبني مرارة البحث عن سكن لائق والذي وجدته بالفعل بعد بحث مضن، منزل بغرفتين مطلي بدهان ملون مع نقوشات مثيرة في أعلى السقف، وأرضية تشي أنه لم يمر وقت طويل على بنائه وتشييد لبناته، وأكثر ما أراحني وخلصني من هم سكن ثنايا قلبي، وما كاد يبرحه حتى تعرفت بشكل شخصي عمن ستشاركني السكن، خفتت جذوة خوفي مذ رمقتها من بعيد تنتظرني، هي زميلة لي ستخوض غمار تجربة العمل في نفس المؤسسة التي سأعمل فيها، علمت أنها ستروق لي وليست من النوع الذي يفتعل المشاكل أو يقتحم عالمي ومساحتي الشخصية بدون سبب، الأمر الذي كنت أمقته بشدة والذي كان سيدفعني إلى أن أعيش بمفردي لولا وعيد أمي لي بذلك ورفضها التام للفكرة.

قررت بعد استقراري وأخذ نفس عميق التأقلم مع وضعي فلابديل لي ما أردت أن أنساق لضعفي هذه المرة، فالأمر ما عاد يخصني وحدي، علي أن أثبت حتى أقوم بمهمتي على أكمل وجه فالله سخرني لهذا ومؤكد سييسره لي، وسأكون على قدر ما جئت لأجله، حماس مفرط اعتراني بعد أن ألقيت بثقل همومي وكل ما اجتاحني في السابق، حاولت بكل ما أوتيت من جهد التخلص من هواجسي التي قبعت فيّ، علمت بالفعل أنه لا بد من معافرة لعبة الحياة السمجة والاعتياد على تقلباتها المباغتة، ولا بد كذلك من اكتساب مناعة تقيني من الانهيارات، يجب أن أتمم المسير في طريقي وأن أحث الخطو صوب ما سطرته من أهداف رغم كل شيء هذه هي طبيعة الحياة مع كل يقين تام بأن الله بعزته وجلاله لن يخيبني وعنايته ستحفني دوما.

1xbet casino siteleri bahis siteleri