كيف نصل إلى السلام الداخلي؟

721

لا شك أننا أصبحنا نعيشُ داخل مجتمع اقتنائي تحاسُدي تنازُعي يدعو جل أفرادهِ إلى تنازع البقاء ويبعث الخوف والقلق من المستقبل، ويجعل التفوق أو التخلف هدف الحياة الأسمى، في كل فرد ينتابهُ خوف مستمر من ما تحملهُ الأيام القادمةُ، تملأ قلبه شكوكًا وشبهات لا مثيل لها، يخاف المرءُ الفقر ولا يَجِدُ الطمأنينة أبدا، حتى الطفل الذي لم يتعدَّ عُمره السادسة يطالب في المدرسة بالتفوق في الامتحانات وإلا ستُختَمُ على جبينه طابع “الفاشلِ” وقد يرافقهُ ذلك طوال حياته.

على المستوى السيكولوجي، يمكننا القول إننا نعتقد بشكل أو بآخر أن النفس السليمة السوية هي نفسها النفس السعيدة، وأن السعادة هي الوجدان، وما نذكره هنا إذن إنما هو إرشادات تفصيلية تُوَضِّح لنا كيف نتجنب المرض النفسي؛ أي: كيف نتجنب الحزن والشقاء. وقد نضيفُ أيضا أن كل إنسان مُطالب أن يعرف كيف يحلل نفسه؛ أي: يجب أن يعرف نفسه وأن يسبر الأعماق التي تحرك نشاطه أو تمنع هذا النشاط، ولكن يجب مع ذلك أن نذكر أن التحليل هو تفكيك وتفتيت، فقيمته سلبية ننتفع بها وقت المرض النفسي؛ ولذلك نحن في حاجة بعد التحليل والوقوف على العلة التي تمرضنا — إلى أن نؤلف شخصيتنا من جديد، التأليف هنا هو البناء؛ أي: هو العمل الإيجابي؛ أي إننا نشفي أنفسنا بالتحليل، ثم يجب أن نعود إلى التأليف لكي نُكَوِّن شخصيتنا من جديد تكوينًا سليمًا.

وهذا ما سنتطرق إليه من خلال هذا المقال، بحيث إن الصحة النفسية للإنسان تظل مفتاحا للعيش في سلام داخلي دون الخوض في معارك مع الأمراض النفسية التي قد تؤدي به إلى الهاوية بسرعة تفوق الخيال، فالإنسان ما يعيشه من ضغوط حياتية روتينية تسكبُ على قلبه بطريقة أتوماتيكية هموما غير منتهية، فأول خطوة هو تجنب هذه الأخيرة اجتناب المسلمِ للخمر، قد يهتم المرء لشيء ما في حياته دون هم، فالهم والاهتمام أمران لا يشبهان بعضهما البعض، فالأول أننا نجتر الأول اجترارًا؛ لأنه يتصل بعاطفة قد انفعلنا بها انفعالًا شديدًا، ونحن في هذا الاجترار لا نمل هذا الهم، بل نجد أنه قسري شأن العواطف الطاغية فلا نملك التخلص منه، وقد يكون لالتصاقنا بالهم هدف، كما يقول أدلر، هو أنه؛ أي: الهم يمنعنا من تحقيق الغايات الاجتماعية كالنجاح في الحرفة أو التفوق في المجتمع أو الدراسة أو نحو ذلك، وعند أدلر أن جميع الأمراض النفسية — والهم أولها وأخفها — تعود إلى أننا نبغي بها غايةً هي الهرب من الواجبات الاجتماعية ومن مواجهة الحقائق اليومية، كأننا نقول أمام المجتمع وأمام ضمائرنا: «كيف تطلبون مني النجاح وتأدية الأعمال الحرفية وأنا مثقل بهذا الهم؟ اعذروني.»

نحن نلتصق بالهموم وكأنها الدواء الذي نرفض تركه؛ ولذلك نجد أن هذه الهموم قسرية نتعلق بها على الرغم من إرادتنا الوجدانية، نفتأ نفكر فيها ونجترها كما يجتر البهيم طعامه يجره إلى فمه ثم يرده، بل نفكر فيها بالليل ولا ننام، ونبقى على هذا الحال الشهور والسنين لا نؤدي عملًا مفيدًا لنا أو للمجتمع، وعندما يتغلب علينا الهم يسودنا، بل يتسلط علينا فتور، بل جمود فكري وجسمي، فلا ننشط إلى دراسة أو عمل. أما الاهتمام فليس كذلك؛ إذ هو يبعث النشاط والحركة، وقد يكون الاهتمام خاصًّا أو عامًّا، ولكن الميزة التي تفصله من الهم أنه وجداني إرادي وليس قسريًّا عاطفيًّا مثل الهم؛ ولذلك يجب أن نلجأ إلى الاهتمامات نعالج بها الهموم إذا كان هذا مستطاعًا، ويجب أن نذكر أن حركة العضو تؤدي إلى حركة العاطفة؛ فإذا وجدنا مثلًا أن الاهتمام بالدراسة والتفكير شاقٌّ؛ لأن عاطفة الهم طاغية قد ربطت العقل ومنعت حركته؛ فإننا نستطيع أن نحرك الجسم بالعمل الذي يُشْعِرُنا بالكرامة ويثير أحاسيسنا الاجتماعية، كأن نتكلف أيَّ عمل نافع للمجتمع.

مقالات مرتبطة

والخطوة الثانية لننعمَ بنفس سليمة، أن نجد على الدوام فترات نستطيع أن نتخلص فيها من التوترات المتراكمة، حتى ولو لم تكن هذه التوترات همومًا مرهقة، والنوم بالطبع يخلصنا إلى حد بعيد من هذه التوترات، ونعني بالتوتر هنا أن النفس تكون مشدودة يَقِظَة مُتَنَبِّهة قَلِقة، كما هو الحال عندما تَحْمِلنا واجباتنا على مواجهة المشاكل والصعوبات التي لا تخلو منها الحياة، والنوم بعد الظهر هو علاج حَسَن لمثل هذه التوترات. أي الاسترخاء التامٌّ، ولكن إذا كانت أعمالنا تطالبنا بمجهود كبير نُحِسُّ أنه يُثْقِلُنا، فإننا يجب -من وقت لآخر- أن نلجأ إلى الاسترخاء الجسمي الذي يؤدي إلى استرخاء نفسي، ويمكن أن يكون هذا الاسترخاء بالقعود على هضبة خضراء تطل على نهرٍ يُهدأ من روعك وينسيكَ كل ما يُشقيكَ وما يُتعبك، أو بالحديث مع من تُحب، أو تأملٍ في مخلوقات القدير التي تذكرك بمدى ضُعفك أمام ملكوت الخالق إلخ؛ فإن كل هذا قد يُعِيد إلى النفسي اتزانها.

وبالطبع نحن لا ننسى أن كثيرًا من التوتر عند الشبان يعود إلى الحرمان الجنسي، وهذا التوتر كثيرًا ما يحول بين الطالب وبين الدراسة، ولا نستطيع أن نَصِفَ علاجًا عامًّا لهذه الحالات، وإنما هي تحل حلًّا يتفق مع الظروف الخاصة لكل فرد، بحيث إن التلاؤم العائلي بالزواج الذي يكفل البيت الحسن، وتجنُّب التوتر الجنسي بالحرمان، وأيضًا وجود العش الذي نأوي إليه يكون سببا في التوازن النفسي والوجداني لدى الشخص.

ما الحياة الدنيا إلا ساعة، والنفسُ طماعة، فعلمها القناعة- النفس السوية السليمةٍ، تعمل جاهدة لكي تكون طيبة قنوعة؛ أي: لا نتهور في مَطَامِع بعيدة نتعب في تحقيقها ولا نحققها، وهذه المطامع تتكون أحيانًا في الطفولة وهي تسوقنا سوقًا، بعناصر تختفي في العقل الكامن وهي ترهقنا بمجهود قد لا نتحمله، كما أنها تَحْمِلُنا على أن نكون أنانيين غير اجتماعيين، والأنانية أسوأ الرذائل السيكولوجية؛ لأننا لن ندرس ولن نصادق ولن نستمتع بتلك الاستمتاعات الاجتماعية العديدة ما دمنا أنانيين، بل إن الأنانية تضرم في أنفسنا غليلًا لا ينطفئ، يجعل التوتر عادة نفسية نصبح ونمسي بها ونحن في تعب وإرهاق.

وقد سبق أن عرفنا السعادة في مقالنا الأول، هي نتيجة اتباع والتزام أخلاقي سليم، كما يمكننا القول إن السعادة هي زيادة الفهم لأنفسنا ولغيرنا من البشر وللدنيا وللكون، وكلما ازددنا وجدانًا ازددنا سعادة، حتى ولو كان هذا الوجدان مؤلمًا؛ لأننا ننظر عندئذٍ بعقل حساس وقلب ذكي، نعقل لأننا نُحِسُّ، ونُحِسُّ لأننا نعقل، وفي كلتا الحالتين نستمتع بالفهم، وعندئذٍ يصير للحياة معنًى لا يجده ولا يقاربه مَنْ يقنع بإشباع عواطفه.