الموت منظار الحياة

على رسلك، أيها القارئ العزيز، فهذه ليست دعوة للانتحار- معاذ الله- ونحن في أيام مباركة، وليست دعوة للتشاؤم والسوداوية. بل على العكس من ذلك تماما، هذه دعوة للتحرر من خوف ذلك الشبح المسمى “الموت” ومطلب: لتغيير نظرتنا للموت حتى تتغير نظرتنا للحياة. وبالقليل من النظر والتفكير، نجد أن فلسفتنا ونظرتنا للموت هو الاختلاف الأكبر بيننا وبين سلفنا الصالح. وقد بلغ السلف ما بلغوه لأنهم كانوا متصالحين مع فكرة الموت.

جاء في مسند أحمد ابن حنبل من حديث ثوبان رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “يُوشِكُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمُ الْأُمَمُ مِنْ كُلِّ أُفُقٍ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ عَلَى قَصْعَتِهَا٠ قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، أَمِنْ قِلَّةٍ بِنَا يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنْ تَكُونُونَ غُثَاءً كَغُثَاءِ السَّيْلِ، تُنْتَزَعُ الْمَهَابَةُ مِنْ قُلُوبِ عَدُوِّكُمْ، وَيَجْعَلُ فِي قُلُوبِكُمُ ‌الْوَهْنَ. قُلْنَا: وَمَا ‌الْوَهْنُ؟ قَالَ: حُبُّ الْحَيَاةِ وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ” ولاحظ أن كراهية الموت جاءت كعلامة من علامات الساعة. ولا كراهية بدون خوف، فنحن نكره ما نخاف منه.

وإذا ما ذكرت المخاوف في يوم الناس هذا، كان الموت من ضمنها، إن لم يكن على رأسها. سواء أصرح المرء بذلك أم كتمه، يبقى ذلك الخوف من ذاك الغائب الحاضر ينخر صاحبه ويأكل بعضه بعضا. ثم أليس من الغباء أن تعيش في خوف دائم من شيء هو واقع لا محالة؟!

وإن الشواهد من تاريخنا عن تقبل السلف الأول لهذه الأمة لفكرة الموت كثيرة، تكاد لا تعد ولا تحصى. لقد فهم القرن الأول من هذه الأمة، ثم الذين يلونهم، أن الموت ليس هو النهاية بل البداية، في حين نرى نحن أن الموت نهاية كل شيء، فنخشى تلك النهاية. لقد آمن سلفنا الصالح بأن الموت مجرد مرحلة انتقالية من مكان إلى مكان آخر، وعملوا على إثر ذلك، فأنجزوا وأعجزوا وأخلصوا النية. يلخص لنا درويش فلسطين هذا المعنى الجميل بقوله:

لم يمت أحد تماما.. تلك أرواح تغير شكلها ومُقامها.

إن الخوف الدائم من الموت يمنع عنك الحياة، ويمنع عنك تجريب الكثير في الحياة. ومن الناس من يكون في فرح وسرور وغبطة فيتذكر الموت فيقع فريسة الحزن والكآبة. والعاقل من يفعل العكس، فإن تذكر الموت انغمس أكثر في الفرح والسرور وعمل أكثر وأنجز أكثر، ومشى في الخير. فينبغي أن يكون الموت حافز ودافع يدفعني لأنجز أكثر وأترك بصمتي في الحياة، وليس مثبط وكابح يكبحني عن الحياة. وقد رُوي عن بعض الصالحين قوله: لو قيل لي أني سأموت غدا ما زدت في عملي شيئا.

ولو أمعنا النظر –قليلا في الحقيقة- وجدنا أن فلسفة الإسلام قائمة على العمل لآخر يوم، ليس من حياتك وحسب، بل من حياة الكون ككل. وهذا المعنى مبثوث في قوله صلى الله عليه وسلم ” إِنْ قَامَتْ عَلَى أَحَدِكُمُ الْقِيَامَةُ، وَفِي يَدِهِ فَسِيلَةٌ ‌فَلْيَغْرِسْهَا”. أما حديث ” ‌مَنْ ‌مَاتَ ‌عَلَى ‌شَيْءٍ ‌بُعِثَ ‌عَلَيْهِ” فليس مجرد إخبار، بل، في الحقيقة، يحثنا على أن نجد الشغف والشيء الملهم لنا ونتمسك ونعمل به لآخر يوم في حياتنا. ويحذرنا هذا الحديث، في المقابل، من أن نصرف حياتنا في أشياء تافهة ومزيفة لأنها ستبقى معانا وتبعث معانا، وبالتالي نضيع علينا حياتنا مرتين.

في رواية “موت إيفان إيليتش” لأديب روسيا العظيم تولستوي، سيجد البطل الذي أصبح على فراش الموت أن متعته الحقيقية كانت ببساطة في لعب الورق. ولكنه كان غافلا عن ذلك، لاهثا خلف المكانة الاجتماعية والمجد والشهرة والمشاعر المزيفة. إن فكرة الموت، إذن، تعيد ترتيب أولوياتنا. وتمحص الكثير والكثير من المشاعر والحقائق، والأفكار. وتزيل الفكرة –فكرة الموت- الغشاوة عن أعيننا فنرى الأشياء بوضوح. وسيكون من الأفضل بكثير لو غيرنا نظرتنا عن الموت، لتتغير نظرتنا عن الحياة، قبل أن نلبس البيجامات الخضراء الباهتة في مستشفى متهالك أو كلنيك خمس نجوم، فلا فرق حينئذ عندما نصبح على فراش الموت.
الفيلسوف آلان دو بوتون فهم هذه الفكرة جيدا، فكرة أن الموت هو أفضل منظار نرى به الحياة، فكتب في “قلق السعي إلى المكانة” قائلا: تضفي فكرة الموت أصالةً وصدقا على الحياة الاجتماعية.. وفي الأحوال النموذجية، نتوقع من فكرة الموت أولا أن ترشدنا نحو أهم الأشياء لدينا مهما كانت.. وثانيا أن تشجعنا على تقليل اهتمامنا بأحكام الآخرين وآرائهم. فَهُم على كل حال لن يحتضروا بدلا منا.

وعلينا، كمسلمين وكمؤمنين بالبعث، أن ننتظر الموت في كل لحظة ولا نخشى من تلك الفكرة. ونعلم أن الموت ينتظرنا فنعمل من أجله ونتسعد له. وينبغي لأننا مسلمين أن نتحرر من الخوف من الموت، ولا نتذكر الموت كشبح مخيف، بل كشيء بديهي واقع، فننشر الأثر الجميل حيثما حللنا وارتحلنا. وينبغي، لأن الموت ينتظرنا، ولأننا يمكن أن نموت في أي لحظة، أن نستمتع بكل هنيهة من حياتنا وبأي شيء نقوم به مهما بدا تافها، حتى في مجرد شرب كأس شاي مثلا، وفي المقابل نسعى دائما لنترك بصمة في الحياة. ونعيش حياتنا كاملة حتى نرحل عن طيب خاطر. وينبغي أن نتحدى الموت في عرينه، ويكون لسان حالنا كما قال محمود درويش:

أيها الموت انتظرني خارج الأرض، انتظرني في بلادك
انتظرني ريثما أنهي قراءة طرفة بن العبد
….
فيا موت انتظرني ريثما أنهي تدابر الجنازة في الربيع الهش

1xbet casino siteleri bahis siteleri