نصف يوم

زرقة السماء توحي بانتهاء يوم هادئ، إلا أنها البداية، بداية يوم لن أعيش فيه إلا النصف، أستمتع بالسكون قبل أن يحل دوي السيارات المسرعة، الثامنة إلا الربع، ربع ساعة يفصل أستاذ عن توبيخ مدير المؤسسة، كما يفصل التلميذ عن غضب الأستاذ، شاب مهرول لإنجاح مشروع أحلامه، وكهل لم يعد يهمه من الحياة إلا أن يدفع ديونه ويحصل على حريته، الموظفون مع حقائبهم الضخمة تلك التي تحمل سنوات من الدراسة والعمل الدؤوب، يتعالى وقع الأحذية ذات الكعوب على الأذان مخفية حفيف صندل عتيق، يتشبت بقدم صاحبته لكي لا يتمزق، كل قسمات وجهها توحي بأنها عجوز، بقع تكسو بشرة يدها الخشنة، تجاعيد وزعت بتساو مبهر على وجهها، جسدها هزيل، كأنه غريمتها الوحيدة من طفولة انتهت باكرا، لم تفكر في السبب، ظنت أن الطفولة لعنة، لذا تحملت حياة البالغين دون اعتراض أو شكوى، تلاقت نظراتنا، عيناها!

قُطع حبل أفكاري، جوهرتان تحتفظان ببريق ساحر ، اختلطت فيهما زرقة البحر وخضرة السلام، سلام على عيناها، سلام على لؤلؤة لم ينطفئ وميضها في غياهب الفقر والألم، لا بل زادت توهجا. إنها التاسعة واثنا عشرة دقيقة، عادت الحياة إلى ركودها، استقر كل في عمله، وعدت أنا وحيدا تشغلني أفكاري عن وحدتي ثم ما تنفك أن تقودني إليها كلما أردت أن أضع نقطة.

أستمتع بتراقص أغصان الأشجار على نغمات نسيم الهواء، أتابع المشهد من نافذتي الزجاجية. فُتح الباب، النسيم البارد لامس بشرتي خيل لي أنه الموت يزفر في وجهي، كان الفريق يقوم بجولته اليومية، كل يوم أنتظر زيارتهم بفارغ الصبر، فريق من الأطباء والممرضين يطلون بوزرتهم البيضاء ومصطلحاتهم العلمية المعقدة، يتحاورون بينهم، يناقشون علتي، أنا لا أشكو سوى الألم، ألم ينخر قواي، لا أريد سوى جرعتي من المورفين، لكنهم يناقشون ما هو أعمق من ذلك، اتفقنا دونما أن نحكي سلمتهم جسدي الذي أصبح نصف آلة، أعضاء تخلت عني أو كما يقال سبقتني إلى مثواي الأخير ليستبدلونها بذراع ورجل لا زلت أعتبرها غريبة، لم أستطع مذ ذلك الوقت أن أستمتع بوحدتي؛ لطالما كان الدخيلان يتربصان بي، أما أنا فلا يهمني سوى الألم، أريده أن يخفض صوته لتنطلق أفكاري. كلمات تتقافز في رأسي فأرتاح لكوني لا زلت موجودا، أتذكر شخصي من خلالها. بابتسامته المعهودة، أتلقى دعاءً من الأستاذ هكذا ينادونه، أما أنا أرى أشخاصا كرَّسوا حياتهم لعيادة مرضى لا يملكون من الأمل إلا قليلا.

انتهت زيارتي، كنت قد بدأت أستمتع بوحدتي، أصب ما تبقى من طاقتي داخلي إلى أن خانتني نفسي، كانت تجرني لغياهب اليأس في حين لم يكن هناك ما يدعو لأن أبقى حيا، مذ عرفت إصابتي بهذا المرض الخبيث. كانت تحذرني جدتي من لعنة ذكر اسمه لطالما استخفيت ببراءة أفكارها، رحلت جدتي فوجدني المرض وحيدا، هكذا انقض علي دون رحمة. ثم وجدت أن لا مهرب لي من نفسي، سبعة مليار نسمة ولم أجد شخصا بجانبي، يسحبني من نفسي، هكذا أصبح الأطباء والممرضون عائلتي، أنتظر عيادتهم بفارغ الصبر، أتذكر من خلال قسماتهم كيف أبتسم، كيف أغضب وكيف أتوتر، أعي أن في توترهم أمرا خطير لكني أستمتع بانفعالاتهم، تذكرني بإنسانيتي.

انتهت زيارتي، ستأتي الممرضة بعد قليل لتنهي آلامي، تعودت أذني على طنين أجهزة المشفى التي كانت تتردد في رأسي، تتسارع تارة فتعلو الأصوات والانفعالات ثم تعود الأمور لمجراها، أظن أنها الواحدة بعد الظهر، أشعة الشمس القوية تتسلل بثقة وهدوء عبر زجاج النافذة، تذكرني اللوحة ببيت جدتي، هدوء، أصوات العصافير ورائحة الخبز الطازج، لم يكن ينقص اللوحة إلا الرائحة الشهية، شيء ما يزعجني؛ إنه الهدوء، أنا في مكان لا يفترض به أن يكون هادئا، أم أنني؟ لقد غادرت المشفى أنا في مكان حيث الهدوء حتى أن آلامي انتهت، هكذا هي الحرية إذن.

1xbet casino siteleri bahis siteleri