فوضى الحواس

في خضمّ انغماسك في عملٍ من الأعمال الإبداعية الشخصية القابلة للمشاركة العلنية؛ غالبا ما تكون مأخوذا بسطوة الآخر عليك. ذلك الذي يُمعن في تتبّع هناتك التعبيرية وزلّاتك التحبيرية؛ فيقع في روعك الراعش هاجس الإخفاق الناشئ عن نير الضغط القاهر المُمارَس عليكَ من لدنكَ؛ فيكون لذلك أبلغ الأثر وأبعده على نتاجكَ المتولّد من فقدان الثقة واستيقان الفشل، بناءً على ما نسَجتَه من أوهام واختَلقتَه من أحكام سابقة لأوانها.

في هذا الصدد، نجد أن بعضَ الواقعين في نفس القلق النفسي إبان الكتابة، قد اهتدوا لبعض الطرق الناجعة لمخاتلة مشاعرهم السلبية المؤثرة على أدائهم، بنهج خطة الهجوم عليها عوض الانزواء في ركن الدفاع الضيّق، فتجد الكاتب يستهلُّ نصّه بتوجيه طعناتٍ متتالية لمناحي الضعف في ذاته، سابرا أغوارها ومُكتنِهاً أسرارها لحظتئذ، محاولا استئصال ما يعتريها من طوارئ ضاغطة، حتى يخلو له المجال ويتفرغ لما هو مقبل عليه، وقد تقدّم لقارئه باعتذار ضمني مشفوع بجلد ذاته والاعتراف بالتقصير.

هذا الأمر كفيلٌ بإعادة الكاتب لذاته، ليصدر عن نفس مطمئنة غير مثقلة بأوزار الهواجس السلبية التي تقف سدّا منيعا بينه وبين الإبداع والابتكار، وكفيل -كذلك- بفكِّ لجام قلمه وتحريره من عِقال العيِّ والحصر ليجمح في مسارح الآراء ومطارح الأفكار مسدِّدا ومقاربا حتى يأتي على الغاية أو يكاد؛ كون الابتكار والإبداع مرهونان بالحالة النفسية للمبدع، فإذا كانت هذه النفس الإنسانية في مندوحة من أمرها، غير متأثرة بضغوطات موهومة، كانت أدعى للإجادة والإحسان فيما هي مقبلة عليه، إذ تستقوي بصفائها الداخلي على استدعاء الخواطر والأفكار، وترتيبها بحسب المقتضى وبتعزيزٍ من الإلهام المتوافق مع لحظات معيّنة.

مقالات مرتبطة

خلافا لمن كانت براكينه الداخلية ثائرة غير مستقرة، تقذف بحمم التوجسات والمخاوف، التي تأتي على محصول القريحة من أساسه، فتذر صاحبها في خواء شاسع ممتد. وما قصة أبي محمد الحريري البصري صاحب المقامات عن هذا ببعيد؛ إذ رفض معاصروه الاعتراف به مؤلفا للمقامات التي تنسب إليه، فرفعوا هذا الأمر للولي، الذي استدعى الحريري لمجلسه، وهيّأ له مجلسا في حرمه، ثم أمره بكتاب مقامة من المقامات تحت عيني الولي ومن حضر، فظّل الحريري يعصر ذهنه لمدة مديدة، فلم يفز بطائل ولم يبلغ لنتيجة، ثم حاول أخرى فلم يُفتح عليه بشيء، فأسقط فيه، ليقرّ بعجزه، ويخرج جارّا أذيال الخيبة المقيتة.

في هذا الصدد وبناءً على هذه القصة، رجّح بعض المشتغلين بالأدب العربي أن يكون الحريري وقع على المقامات في بعض أسفاره ونسبها لنفسه، لكنه زعم عارٍ عن الدليل، وأقرب منه، أن يكون الحريري قد أُتي من جهة ضعفه النفسي، إذ عُرض لسطوة الهيبة السلطانية، مع حضور جمعٍ غفير ممن يُشهد لهم بالفصاحة وطول الباع في البيان والتبيين، فكان هذا الجو كفيلٌ ببعثرة الحريري وإرباكه وإسقاطه في دوامةٍ من التوجسات القاهرة، من تأثير أبصار القوم المثبّتة عليه والتي لا تكاد تطرف للحظة واحدة. مما أقام في دواخل الرجل حربا ضروسا، رأى أنه من المصلحة الانسحاب منها بأقل الخسائر، عوض أن يقحم نفسه في كتابة شيء يكون دليلا عليه لا له لحظة ارتباكه.

وبعض هذا الأمر يجده الطالب إبان فترة الامتحان حينما يقف على رأسه أحد الحراس ويثبّت عينيه على ورقته، فيتفرّق من ذهن الطالب ما كان مجتمعا وينتثر منه ما كان منعقدا، وعلى سبيل العبث وربح الوقت يعمد الطالب لورقة الوساخ ويرقن عليها بعض الأفكار المتضاربة المتناحرة، ريثما يتجاوزه الحارس فيتوب إلى نفسه ويعود لما كان مستغرقا فيه.

1xbet casino siteleri bahis siteleri