من مفكّرتي، رقم واحد:
جاء من مكانٍ لم يكُن فيه صدى القديم يُذكر غير الحنين نحوه، لم يكُن ما يثير جلجلة رأسه، كانت رحلته بسيطة في عالم الحرف والكلمة، رحلة قارئٍ بسيطٍ متواضع، تجذبه القَصَص وتشدّ بيده نحو الخيال، غاية غاياته أن يتيه في عوالم لا تكسّرها كَبوات الواقع ومنحدرات البؤس. كان يحبّ أن يُحيِي ما يميت الأمل في نفس كتابات المنفلوطي، لكنّه لم يعلم أنّ خرابَ مانسون سيأتي على أمله بالخيبة والتذمّر في نهاية كلّ سطرٍ، إنّه كالطّائر المذبوح يفتّش عن شيء أضاعه في متاهات السّير، رغم أنّ الأمرَ المنشود ملقى بجانبه، فوق رفٍّ من رفوفِ مكتبة أخته.
قراءات أبسط ما يقول عنها بدأت بشكل متدرّج، لا ناصر له فيها ولا معين غير اللّه وأخته، لقد أغفل هذا الفضاء الزّاهر، هذا البيداء المزهر بالثّمار النّاضجة، حتّى مرّت به ساعات شَعَرَ فيها بانفرادٍ يجذبه وسكونٍ جعل كلمته تستمرّ في صمتِ الوجود، ثمّ حيتُها إلى مخدعٍ لم يرَ فيه غير سحابة حُبلى تسبح في السّماء.
وسط فلاة موحشة تعزف جنانها وهدوءٍ يأبى أن يفارقه ذهبَ لدراسةِ الأدب العربيّ، وفي جرابه حفنة من سطورٍ متناثرة قائمة على صفحة البياض، ليدرك بعد أيّام قليلة أنّه فهم ما فهِم ممّا لا يجب أن يعترض سبيله حتّى يظفر بغنيمته، أدركَ حينها أنَّ هذا هو السّبيل الذي عليه أن يطيل النّظر والتّفكير فيه. ثمّ وقف نظرة طويلة عميقة خائفة وهو في حصّة الشّعر القديم أمام رجلٍ لغويٍّ بامتياز يتطاير الغبار وراء كلماته، رنّانة إلى رتبةٍ جعلت رجليه تغرق في السّؤال، وعلى آذانه أصوات من عيار المتلازمات اللّفظية القويّة كطيلسان طبريّ!
مقالات مرتبطة
من مفكّرتي، رقم إثنان:
وبعدها تحوّل خوفه إلى شغف، شغف أعانه على وعثاء الحياة وصداعها المشحون بالألم والمعاناة، فصار يطوي في الكتبّ كطيّ المعوز، بعد أن وقعت عينه على منهجٍ مبثوثٍ في دكّان ٍمن دكاكينِ هذا العالم الافتراضي، صاحبه من طينة أصحاب الظلّ الذين يختبئون هنا، فحذا حذو خطواته واتّبع ما فيه، بدءًا ممّا قاله ابن المقفّع “حبِّب إلى نفسك العلم حتّى تلزمه وتألفه، ويكون هو لهوك ولذّتك وسلوتك وبلغتك” صعق الواقع بصعقة الوباء، فتفرّقت الجموع وركنت عند البيوت، فأخذَ هذه الفترة على محملِ الجدّ وبدأ يستشّفّ وراء اللّوح المكتوب والرَّقِّ المملوء، فيرتع من فيض ما فيهما، وذلك لم يكن ليجدي أُكله دون طرح هذه الشّاشات القائمة على الخواء في سلّة النّسيان، وإن لم يستوعب هذه: {يا يحيَى خُذِ الكتاب بقوّة} على وجهها المراد وغايتها الكونيّة.
بعد أن أخذ يقرع طبول السّاعات ويلوي في الأوراق، رأى ذخيرة جعبته تزداد بطريقة نبيلة وأسلوب رشيق، فبدأت نظرته إلى الأشياء تتغيّر وتختلف يومًا بعد آخر، فلم يجِد من البُدّ أن يرخي قبضته على هذا الميدان النّافع، الذي أصبح يرى وجهه الكريم فيه، بل ويعكس ذاك البطل الحقيقي الذي يمكن أن يكونه مضفيًا على وحله القديم إشراقة ومهابة، زائدًا عليه تحوّلا عظيمًا في ذرى تبلغ من العلوّ مبلغًا. وأعجَب ما في الأمر أنّ هذه الاندفاعات نحو الجمال والرّوعة، كان يرى فيها الانتصار على الذّات وكبتِ عالمها المدفون تحت ثرى التّفكير المشمئزّ، فإذا به يغرف سموّ الرّوح من فضائل المنفلوطي وخصاله الحميدة، فكتُبه جديرة الاستحقاق بأن تُذكر في جميع وجوه الذّكر، لقد كان يحسّ عند هذه الفترة المريضة أنّه في البيتِ ملكًا يدكّ في أرض البلدان، ويخترق الحدود مرتديًا معطفًا من فرو الأسد!
طوال هذه الأشهر وهو قابعٌ في مكانه أو في قبوه يخيط ما يليق به، زيًّا كلاسيكيًّا من فراء ما يرتدي الأمراء، فما كان يخطر بباله ما يقع في العالم من اهتزازات وتقلّبات، لكنّه كان يعلم ما يقع في التّفاصيل الدّقيقة بين شخصيّات دوستويفسكي، فهي تكفيه وترضيه. هي أشهر في نظره عذبة، تكتسي نظرة آسرة تخطف الأبصار.