انفطار قلب

أمن المنون وريبه تتوجّع والدّهر ليس بمعتب من يخزع

قصيدة من عيون الشّعر العربي، شاعرها حمل وجعًا وألمًا صدًرَا عن فاجعة حفرت عميقًا في نفسه. أبو ذؤيب الهذلي انفطَر قلبه من شدّة الحزن والألم على فقد بنيه الخمسة الذين ماتوا بالطّاعون في مصر. إذا المنيّة أنشبَت أظفارها. فكيف تُدفَع؟

منذ عهدي بعينيّته الشّهيرة، التي خلّدته وخلّدت باقي شعره وأنا أتألّم لكلماته، أشعر بألم الفقد، أشعر بمذاق المصيبة في فمّي، بتلك الحالة الشعورية التي يكون فيها الإنسان إذا ما فقد أحد أقرباءه أو أحبّاءه، تكون نفسه مليئة بالأسى، مشغولة بتصوّر من فقد. فكيف لمن فقد خمسة أبناء في عامٍ واحد! لا أستطيع تخيّل المشهد وتصوّره في ذهني. لكن ليس كلّ من فقد مثل أبي ذؤيب. كيف ذلك؟

خُلقنا باللّغة، وهي سرٌّ من أسرار الوجود، ومتاهة من متاهات الكون، وأداة لتعريف جميع المخلوقات والموجودات. فالله سبحانه وتعالى علّم آدم الأسماء كلّها باللّغة، يكفيه سبحانه أن يقول كُن فيكون. هي التي تريحنا وتعبّر عن دواخلنا وتترجم مشاعرنا وأحاسيسنا، وبها نخرج تلك الزّفرات الحرّى الملتهبة للتّرويح عن هذه النّفس حتّى لا تموت من الكَمَد المكبوت والحزن المخبوء.

مقالات مرتبطة

كذلك مع أبي ذؤيب الذي استطاع أن يبكي ويرثي أبناءه باللّغة، بإنشاد الشّعر فيهما وتصويرهما ونمذجة أوجاعه نمذجة فنية جمالية. هي الوحيدة التي بمقدورها أن تلعب بالنفس كيفما شاءت، تروّعها، تهذّبها، تسعدها، تشقِيها… وقد كان الشّاعر يشعل لهيب الحرب ويخمدها، وفنّ القول هي الطّريقة التي عبّر بها العرب عن مشاعرهم، وهو أقوى الطّرق إغراءً وإقناعًا، وأشدّها خطرًا. فأعظم نعمة هي نعمة امتلاك ناصية اللّغة؛ أنْ يكون قلمك رشيقًا، يسيل رقّة وعذوبة. لتعبّر عن سعادتك وشقائك، عن حبّك وبغضك، عن مشاعرك المتقلّبة التي لا تركن عند حالٍ من الأحوال.

رثى أبو ذؤيب فلذات كبده بقصيدة جميلة جدّا، حزينة جدّا. وهي من الأشعار التي علقت في الزّمن، وعلوقها هذا سببه تشابه البشرية واشتراكها في هذه المحن والبلايا، وهي ذات طابع فلسفي كوني، تتميّز بالامتداد على كلّ الأزمنة والأمكنة. بكاهم بكاءً حارًّا، رغم أنّ البكاءَ لا يجدي نفعًا ولا يرجع مفقودًا، ولكن الإنسان لا يستطيع أن يمنع نفسه من البكاء. وهذه حالة التّعبير عن الفقد.

بنو البشر عرضة لكلّ شيء، وينطبق على نصّنا ما قاله علي الطنطاوي في مقالة “حكمة وقدر” من أحاديث الإذاعة: “خُلِقنا للشّقاء وأُقِمنا هدفًا للمصائب، ووضعنا في دنيا ما فيها إلّا الآلام، من سلم منها اليوم وقع غدًا، ومن لم يمُت ولده من سقطته مات من علّته، أو مات وهو صحيح معافى. ما من الموت بدّ. ولا بدّ قبل الموت من البلايا والمتاعب”.

المصيبة التي حلّت به كفيلة بأن تسبّب انهيارًا لأيّ إنسان مهما كانت طاقات احتماله؛ لكن أبا ذؤيب حوّل مصيبته شعريًّا إلى فلسفة حياة. هذه الحياة ليست عجينة في أيدينا نديرها ونلولبها كيفما شئنا؛ وإنّما هي مزيجٌ بين المسرّات والمصائب. لا أحد يستطيع أن يعجنها ويضعها في الفرن على مهلٍ، ثمّ يضعها في مكان معتدل البرودة يشدّ بعضها بعضًا، ويختار بعد ذلك المكان المناسب، الجميل الهادئ، ويأكلها فرحًا مسرورًا بها.

ذكر أبو ذؤيب التجلّد والصّبر على مصيبته ومصائب الدّهر: وتجلّدي للشّامتين أريهم أنّي لريب الدّهر لا أتضعضع
إلّا أنّ هذا لا ينفي شدّة حزنه وألمه، فمع الصّبر هو يتألّم لفراق أبنائه وشوقه إليهم، وقد ضمّن قصيدته وعبّر فيها عن هذا الشّوق وعن الهمّ والوجع والنّار المتأجّجة في صدره.

1xbet casino siteleri bahis siteleri