قابليّة القراءة

842
إنّ الدّفاع الشّائع اليوم لإضفاء طابع خيالي على الماضي ووسمه بالعصر النَّضِر أصبح مجرّد تصعيد يأتي من فرقٍ متعصّبة -هذا حسب زعم جملة ممّن يضربون في طبول هذه الفِرق-؛ فالحديث عن هذه الذّكريات الرّائعة والبَركة العلميّة الزاخرة صارت تُرمى في قعر الخواء مع من يدّعي أنّ العلمَ بلغ العَنان مع فترة الحداثة أمّا عصرنا ذا وساحتنا الآنية هي السّاس والرّأس وما دون ذلك جهل وتخلّف ووديان من اللّاشيء!
ممّا حزّ في نفسي وحرّك همّة القلم للصّدع بحقّ الحقّ دائرة العُدول والنّفور ممّا وصلنا من لغة بليغة، لغة لها ما لها في باب الكَلم والكلام، وصدّ كلّ قول لا يحوي بين طيّاته لغة علميّة وصفيّة يتطاير منها المعنى الواضح ويشقّ طريقه في أفهام المتلقّين. ألَا يجعلنا ذلك أمام علامة تعجّب كبيرة. القراءة محض تضييع لمهارة اليد والعقل وبُعدٍ بعيد عن امتلاك ناصية السّرعة، وعن مقارعة المادّة أنّى كانت! فهذا ممّا لا أجده سهل البلع ولا يمرّ في حلقوم كلّ شخص وقع في حبّ الأجداد، وأيضًا ما أراه يُرسل إشارات وذبذبات عدم معرفة الكثير عن حياة هؤلاء وسعة علمهم والموسوعيّة التّي كانت تُقذف كالحمم من عقولهم؛ جهابذة وصناديد برعُوا وأجادُوا في كلّ شيء! فالذي وبه يضعنا أمام حقيقة لا فرار منها: نحن أهل البيان فإن كنّا قرّاءً أصحّاء، لكنهنا معنى ذلك، وفقهنا لغز لغتنا، ولكتبنا بها رسائلنا وأحاديثنا العابرة وكنّا خير خلف لخير سلف.
إنْ أردنا أن نعيش على خُطاهم ونسير وفق نمطهم، علينا أن نتسلّح قبل النزول لساحتهم وإلّا سنموت كل يوم وفي كلّ موقف، بل وعند كلّ لحظة تدّعي منّا ركب المعنى وتخييط العبارة في ثوب مكين وصورة لاحبة بالبيان وسامقة كرداء السّلطان؛ إنّ بلوغ ريادة العلم وتقفّي أثر من سبقونا إلى الرَّقّ والقلم يتطلّب الأمر جهدًا جهيدًا وضميرًا يقظًا ووقفة رجل يرغب تسلّق هذا الجدار الشّامخ؛ فلا يخفى على كلّ طالب وباحث مجدّ رصين ما وصلنا من حياة هؤلاء في مخطوطات وكتب معدودات لا يرقى العدّ إلى حصرها! لا يدري هذا إلّا من رمى نفسه قارئًا متلهّفًا وباحثا شغوفًا يقلّب بين ثنايا الصفّحات ويغوض في لجج العبارات ويطوي في الكتب كطيّ المِعوَز قتلًا وفهمًا وإحاطةً.
في الواقع يمكن النّظر إلى الجدل حول قابليّة القراءة، والحديث عن معرفة تتّصل جذورها إلى ما وراء التّاريخ الحالي، في فترات وسراديب موغلة في القدم وضاربة في الأعماق؛ ألَا يمكننا القول إنّ الاضحملال والرّجوع الكبير الذي حلّ بنا هو السّبب المباشر في جعل الكثيرين يحطّون من تراثنا الكبير وصفحاتنا اللّامعة وأسوارنا الشّاهقة!؟ أليس هذا من ضروب الاستخفاف والطّعن فينا!؟ وفيما أفنَوْا فيه أهلنا حياتهم وأيّامهم، فأخبار العرب وأيّامها خير شاهد ودليل على ذلك.
من الرّحلة الشّاقة بَلَغَتْنا قصائد ومقصّدات وأراجيز في الطبّ والتّشريح والهندسة والملاحة والفلك وهلمّ جرًّا…أمَا هذه أخبار تحيلنا على ما كان عليه هؤلاء من إحاطة ودراية بكلّ شعب الحياة وحيثيّاتها، وأنّهم كانوا خير فترة في تقديس العلم ووضعه في مكانته الصّحيحة؛ فإذا عدنا إلى القَصَص الواردة عن مشقّة تصحيح الحديث الواحد لرأينا في ذلك العجب العجاب، يسابقون الزّمن وهم يقرؤون، تجدّ هذا طبيبًا ومهندسًا وفقيهًا…! وهناك من يأتي مراد إخبارنا بأنّ لغتنا لا ترقى إلى مستوى البحث العلمي ولا تؤازرنا في الوصول إلى نتائج وحقائق. وهل نحن طرحناها في السّوق واشتغلنا بها لنرى ما إذا ستصلح!؟ وهل وفّينا الحقّ في سبيلها واحترمنا المصدر والمورد!؟
كلّا؛ فمن منّا الذي لا يطمح بلوغ ذاك الحصن الكلاسيكيّ القديم وعربيّة الأقحاح منّا الشّبيهة بتلك الكتب التي كتب بها كبار المتصوّفة وأسفارهم بخيال ثريّ، والغوص في القراءة والتّرجمة بما نملك من آليات، فلن نسمو مهما دكّينا في الأرض دون هذا النّحو.
وما أحسن ما قاله الشافعي -رضي الله عنه- في رسالته: “هم فوقنا في كل علم وعقل، ودين وفضل، وكل سبب ينال به علم أو يدرك به هدى، ورأيهم لنا خير مِن رأينا لأنفسنا.” وهناك ما هو أدهى وأمر في الحدّ من مقدرتنا العلميّة واللّغويّة؛ لا نقرأ دون الرّوايات والقَصص اللّاهية الممتعة، نقرأ رغبة في رسم صورة وتسويد قول على شخصنا؛ بينما كتب الأسلاف تعيش بين الحفر وحملها يعدّ ثقلًا ثقيلًا على كلّ نفس خاملة واهنة، لا قدرة لها على سبر الكلام البليغ الذي يعجّ بالكناية والرّمز والصّورة؛ هي الكتب الحافلة بالعلم والمعرفة.