المنطلق القرآني لإصلاح الفكر الإنساني

1٬054

عند نزول القرآن الكريم في شبه الجزيرة العربية خلال القرن السابع الميلادي أحدث رجة فكرية وروحية قوية في العرب الذين كانوا يتخبطون في ظلمات الجاهلية، وبما أن مصدر هذا الكتاب هو السماء لا الأرض، فقد كانت نظرته للحياة مختلفة عن باقي المؤلفات البشرية، وهذا التأثير الذي أحدثه نابع من أسلوبه الراقي الذي يخاطب الوجدان ويطرق الباب على العقل، وهذان الاثنان هما الدينامو الذي يحرك كل إنسان سوي.

وبما أن التفكير الإنساني معرض لآفات عديدة كالخطأ والخرافات والجهل والضلال؛ فهذا الفكر يحتاج طريقا محكما يجعل العقل الإنساني مسددا بهداية الوحي ومستظلا بظلال الهدي الرباني، فما هي منطلقات القرآن الكريم في إصلاح الفكر الإنساني؟

ابتدأ القرآن الكريم بإصلاح تفكير الناس بدعوتهم إلى القراءة وحثهم على طلب العلم: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق: 1]، {كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 239] فالقراءة المطلوبة هي القراءة المعرفية المنهجية، التي تعتمد أساساً على الوحي تدبراً وتأملاً، وعلى الواقع فهماً واستيعاباً.

وأرشد القرآن الكريم إلى الوسائل المساعدة على طلب العلم والمعرفة، فجزء منها من ذات الإنسان وهي أولا عقله الذي يفكر به، وبصره الذي ينظر به، وسمعه الذي يسمع به، وأنفه الذي يشم به، ويده التي يبطش بها. {قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۖ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ} [الملك: 23]، {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ} [النحل: 73}

والجزء الآخر يكون بحفظ المعرفة والعلم من الضياع عن طريق التدوين والكتابة، سواء بالطرق التقليدية كالقلم والأوراق، أو بالطرق الحديثة المتطورة مثل الحواسيب وغيرها {ن ۚ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} [القلم: 1]، والغرض من ذلك هو بقاء العلم والمعرفة واستفادة الأجيال المقبلة من تجارب الأجيال السالفة.

ومن أساليب القرآن الكريم في إصلاح الفكر الإنساني أنه اعتمد على الحجة والبرهان؛ حيث يدعو إلى بناء الأفكار والمعتقدات بعد تمحيصها والتأكد من صحتها، {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 111] وجعل صدق الأنبياء قائما على الآيات الواضحة والبراهين الساطعة.

وإذا كانت الحجة قائمة على الإقناع، فهذا يحيلنا إلى أسلوب آخر من أساليب القرآن، وهو الحوار والجدال بالتي هي أحسن، {ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ} [النحل: 125]. ويكون هذا الجدال بثلاثة أشياء وهي: العلم، والهدى والكتاب المنير، فمن خرج عنها يكون ضالاً منحرفاً عن الطريق المستقيم. فالعلم يزيل الجهل عن العقل، والهدى ينير لنا الطريق لكيلا نقع في الانحرافات المفضية إلى الجهالات، كما أن الكتاب المنير -القرآن الكريم- هو مصدر الهداية والرشاد بسبب احتوائه على الوحي الرباني.

مقالات مرتبطة

وقد دعا القرآن الكريم إلى استعمال العقل باعتباره الآلة العجيبة التي وهبها الله للإنسان، وبها ميزه عن سائر الكائنات الأخرى على هذه البسيطة، فما من إنسان إلا وقد أعطاه الله عقلا كاملا، لكن الناس على درجات في توظيفه، فمنهم من يعطله ولا يشغله، ومنهم من يستخدمه أحسن استخدام. وبهذا يختلف العلماء عن الجهلاء والحكماء عن السفهاء. {أَفَلَا تَعْقِلُونَ}، {أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ} {أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ} [الأعراف: 185] والعقل الذي خلقه الله فينا يحتاج إلى إعمال لا إهمال.

وقد حذر القرآن الكريم من بعض العقبات التي تعيق طريق الرقي بالفكر الإنساني، فنهى عن التقليد الأعمى لمن سلف من الآباء والأجداد {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ۗ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} [البقرة: 170] فالآباء والأجداد ليسوا دائما على صواب، فقد تكون أخطاؤهم مهلكة للحرث والنسل، وأفكارهم قاتلة للإبداع والانطلاق، لهذا يجب أن نخضعها لميزان ومعيار لغربلتها وقبول الصالح منها ورمي الكاسد فيها، وهذه الغربلة ضرورية لتجديد الوعي والرقي بالسلوك في الواقع المتغير باستمرار.

أما ثاني هذه العوائق؛ فهي اتباع الظنون والأوهام، والظن خلاف العلم لأن الظان لا يجزم بشيء فهو فقط يضع فكره وسط احتمالات قد تكون صائبة وقد تكون خاطئة منحرفة، لهذا حذر القرآن من أصحاب هذا الطريق، {إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} [الأنعام: 116] فطريق الحق واضح، وهو يقوم على القطع والمنطق السليم، وكذلك في التعامل مع الأشخاص، فلا نحكم على أي شخص إلا من منطلق معاشرته ومصاحبته وليس من خلال سماع ما يقوله الآخرون عنه، فنظن به المساوئ التي لا دليل عليها ولا برهان، فمن رأى وخبر ليس كمن سمع وظن الظنون.

أما ثالث هذه العقبات؛ فهو الهوى الذي يمنع الناس من الإذعان إلى الحق الظاهر والفكر الصالح، وهو الذي صد القريشيين عن الإيمان بدعوة الإسلام في البداية، وهو الذي يقود الإنسان إلى مهاوي سحيقة في حياته وفي آخرته. {وَلَا تَتَّبِعِ الهوى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: 26]

أما رابع هذه المعيقات؛ فهي الإنكار والجحود فهذان الأمران صارفان عن الفهم وعن إدراك الحقائق، لذلك كانت حجباً مانعة من انطلاق التفكير الإنساني. {أَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الأعراف: 146] فالذي يتكبر لا يتعلم كما أن الخجول الذي يستحي لا يتعلم؛ لأن كلا الأمرين يشكلان حاجزاً بين الشخص وبين الفهم والإدراك والاستيعاب.

لقد وضع القرآن الكريم منهجاً دقيقاً وعملياً لتأطير الفكر البشري ووقايته من الزلل والتيهان والضلال، فإلى جانب كونه كتاب هداية وتشريع تضمن آليات مهمة تساعدنا على إصلاح فكرنا وتوجيهه الوجهة الصائبة السديدة. يا ليتنا نأخذ بهديه للخروج من التفكير العامي المعوج إلى التفكير العلمي المستقيم.

1xbet casino siteleri bahis siteleri