هاته الأرض، أرض حنظلة

قد تكون فكرة الموت مؤلمة، ولكن الطريق إليه أشَدُّ ألمًا. يجلس الصِبية في ليلِ غزة، وغزة ليست ككل الأراضي، هواؤها لغزة وناسها لغزة، ليس كالكل، يقول الأخ الأكبر محاولاً أن يكسر حاجز الترقُّب وهو يختبأ تحت المائدة: “سأختبأ هنا ولن يصيبني أي مكروه إذا ما قُصِفنا..” فيحذو الصغار حذوه وكلٌ يختبئ في زاوية ما وقد نسو آلامهم، والقصف يشتَد لكي يطرد هنيهة الفرح تلك، فحتى الكبار مفزوعون، سحابة غبار أعقبها القصف تعلو غزة، والليل سواده كثيف وليس هنالك مصابيح تحارب الدُّجُنة.

حُوصِرت هاته المدينة من كل حدب وصوب، ويكاد حتى الصعام لا يسد جوع الكبار، ولا الماء يكفي ليروي ظمأهم القامح، فما بالك بالصغار، وما أشد ظمأهم للحرية؟ يُقصف منزلٌ ومنزلان، وحيٌّ بأكمله، والرجال في صراع مع الهدم بأيديهم، وفي صراع مع الظلمة بأعينهم، وفي صراع مع الجثث التي ينتشلونها من تحت الأطلال بصعوبة بقلوبهم المنكسرة، يقول أحدهم بألم بليغ: “نحن مبنحبش الليل” وأخرى تقول: “وين العرب ليش اتخلوا عنا، نِحن بشر مش حيونات” صغيرة مستلقية على سرير في المشفى، تلطخت ثيابها ببقع دم أردت الثوب الأصفر أحمرًا، تحاول أن تستوعب غير آبهة بالكلمات التي تقال لها، تنبس بحروف كأنها زجاج تخرجه من حنجرتها: “كل العِيلة استشهدت” وهذا رقم مائة ليس له اسم أو عائلة لقد كان هو الناجي الوحيد وكان هذا الرقم من نصيبة، قطعة لحم صغيرة، مليئة بالكدمات وما الذنب يا ترى؟

وأثناء عملية الإنقاد هاته، يُقصف المُسعِفون هم أيضا، وأنا جالس هنا بعيد عن فِلَسطين ولكن قلبي هناك، أبكي مع كل غارة ومع كل استنجاد من أحدهم ومع كل طفل يموت، ولكن كم من الدموع سالت من أجل غزة، هل بِوِدِّ هاته الدموع بأن تغير من الواقع شيئا؟

أمي تلعن الظالمين بدون أن تفرق بين الجلاَّد والمجْلُود، أقترب من شاشة التلفاز أكثر وأقول لها واضعا سبابتي على أحدهم: يا أمي هذا الظالم وهؤلاء المظلومون، وتلك غزة تلك أرضنا التي تخلى عنها العرب إلا أهلها، وكل تلك الأرض، كانت تسمى فِلَسطين، وأصبحت تسمى فِلَسطين.

وفي المقهى وأنا جالس أحتسي قهوتي السادة مُركِّزا مع الشاشة أحاولا رصد كل جديد متمنيا أن يكون هناك تحرك عربي ناجد، يقول أحدهم: “لقد كانوا في أمان، حماس هي سبب كل هذا، هي من أشعلت فتيل الحرب” هناك فُرنٌ ضخم كنت أشتعل فوقه غضبا، ألتفت إلى القائل وأنا أرميه بالكلمات تِباعًا: متى كانت فلسطين في هدنة يا هذا؟ فلسطين لم تكن في هدنة من النكبة، كانت النساء تضطهد دائما، ويضرب الشباب دائما ويسجنون لسنين بدون أن يفعلوا شيئا.

في السنة المنصرمة، مات 170 شخص بدون أن يكون قصف أو غارة، مجرد بنادق عشوائية تنطلق منها الرصاصات على هوى حامليها، أما الآن فهم لا يفعلون إلا أنهم يدافعون عن أنفسهم، هم لا يفعلون إلاِّ أنهم يكتبون التاريخ بدماء من ذهب، فالحرية ليست شعارات تردد، ولا انتظارات، الحرية فِعل، الحرية تُسقى بدماء طالبيها، هؤلاء المجاهدون حُرموا اللعب في صغرهم، لم يتركهم المُحتل ليلعبوا لعبة الشرطي والسارق، كانو يحاربون بالحجارة، وهم في رقراق العمر، فها هم يفعلون الآن.

1xbet casino siteleri bahis siteleri