مرحبا صديقي الغريب، لقد طال الغيابُ وكبُر الفراق، فتقبل مني مُروري الخَفيفَ ولا تنس صوتَ الحب في صدرك وهو ينادي بالحرية.
أما بعد،
لم يكن غيابي عنك يا صديقي لإهمالٍ مني أو لنُفور من صُحبتك، بل هي الحياة، الدرب الطويل المتعِب، هذا الطريق البعيد، سمه ما شئت.
لكني أعود لأحمل قلمي بعد زمن، لأكتبَ إليك خِطابا قد يسُرك وقد لا يفعل.
صديقي الغريب؛
هل سبق لك أن شعرت بحضور ظلك الطفولي حين يهطل المطر! يصمت فيك ضجيجٌ قد أثقلك، قطرةً قطرةً، وقد غمرتك الدهشة والبراءة؟
هل كنت حائرا، وأنت تفتح راحة يدك لتستقبل نقطة شفافة من هذا الكون الشاسع، من أين قدِمت؟ تتساءل، أي طريق قد عبرَت، وهي الآن تروي عطش زهرة ما، وتكبر فيك، قليلا قليلا، كأملٍ صامت، وكقصيدة ثائرٍ.
هل سبق لك حقا أن أنصتّ لخفقان قلبك حين يهطل المطر؟! ألم تراقب الشبه الكبير بين قطرات المطر وهي تلتقي بالتراب للوهلة الأولى، وبين نبض قلبك وهو يفتح أبوابه لضخ الدم في عروقك؟
ينبعث عطر الحياة من تفاصيل الطبيعة رويدا رويدا، كأن الجفاف لم يُشقها يوما. وربما تنبعث منك الآن رائحة المطر، أو بالأحرى سر الحياة، وقد تتساءل، كيف تهطل السحب فينا، وقد أجْهمَتْ السماء في الصدور؟ هل يتساقط من قلبنا الرذاذ حقا؟ وكيف ينبت منا الورد بعد المطر!
إننا يا صديقي نعيش فصولا كما تفعل الأرض، فينا الخريفِ وفينا الشتاء، فينا الصيفُ وفينا الربيع.
حينا نُشرق كشمس الصباح مبتهجين، وحينا نيأس كألوان الخريفِ مُحبطين، حينا نُزهر كألوانِ الربيعِ متأنقين، وحينا تشتد فينا الأحاسيسُ كحر الصيف.
في أحيان كثيرة، حينما أبلغ من الكتابة ما أبلغُ، حين تتسعُ فيَّ اللغة، ويَخطفني القاموس إلى تلالِ البلاغة، فلا وصف يستطيع أن يعيد لي نفسي المنسية بين الأسطر.
أنا أكتب، ثم أكتب، ثم أتعب، فأذبل.
أنا أحيا، أجري بين دروب الدنيا، أسقُط، أقِف، أقَع، أنتَصر، أنهزِم، أفرَح، أحزَن، أرَى، لا أرَى، أحِس، أصمُت، أحِب، أكرَه، أنجذِب، أنفُر، أشمُخ، أهوِي، أتقبَّل، وأمضي في طريقي.
في أحيانٍ كثيرة، يغمُرني إحساس غريب، أن أكون في حاجةٍ ماسة إلى الحديث، أن أراسل شخصي المفضل، أطلب منه أن نتحدث، فقط لو أنه يسمعني أو ربما أنصتُ إليه، أن أغدو شفافا للحظة من الزمن.
هل هكذا يكون البحث عن وطن، هل هذه الغربة؟
في أحيانٍ كثيرة، حين تُتعبني الكتابةُ والحياةُ، أبتغي حضنا يحملني ويروي ذبولي، قلبا يُداعِب أحاسيسي المتناثرة، فقد تاه النبض وتشتتت كلماتي.
في أحيانٍ كثيرة، أطلبُ من شخصي المفضل فرصةَ للحكي والحديث، وأطلبُ بكل جدية؛ هل نتحدث قليلا؟
فقد أتعَبني الكمُّ المُرعبُ من الأحاسيس التي تحملها شخصياتي، فأطلبُ فرصة التنفس، فرصة التوقف والاستماع لصوتي المفضل، والحديث الذي يجعلني أرتق ثوب مشاعري.
أعلم جيدا يا صديقي أن ما يجعلنا نيأسُ ونَنهزم أمام الإحباط، هو حين لا يستجيب لنا أحد، أي أنك يا صديقي في أحيانٍ كثيرة، ستنتظرُ رسالة من أحدهم، سوف تهربُ في كل مرة من بؤسِ الحياةِ إلى أحدهم، لتحدثه عن يومك، عن أشيائك، تفاصيلك، وحتى عما اقترفته من أخطاء.
صديقي الغريب،
أحيانا، كلمةٌ بسيطةٌ تكون قادرةً على جعلك تبتسم، على سَقي زهرِ الأمل في صدرك، أحيانا ابتسامةٌ قد تحيي فيك شغفا مُنطفئا.
أحيانا يا صديقي تنكسِر، فيجبرك حضنٌ ما، كلمةٌ ما، أو ربما سجدة.
أحيانا يا صديقي يتناثر منك الشتات كأنك لن تُجبَر أبدا، وفي لحظة تعود سالما صامدا كأنك لم تُكسَر أبدا.
أنا إنسانٌ ضعيفٌ، وأنت كذلك، لا بد لنا أن نعترفَ بهذا أولا، ثم نمضي في هذا الدرب الطويل، قد تُحزننا الكلمة الواحدة، ويُبكينا فراقٌ ما، قد تَجرحُنا الأشياءُ البسيطةُ، وقد تتملكنا الكآبة دون أي سببٍ واضح. لأننا ضعفاء، أنا وأنت، وكل هؤلاء الذين يدَّعون القوة. والضعفُ ليس عيبا يا صديقي، الضعفُ أيضا قوة، حين نتقبله، نتحسسه فينا، وبه ننتصر على كل شيء.
أنت لن تكون قويا بين ليلةٍ وضحاها، لن تكون قويا حتى تنكسِر، حتى تقع مرارا وتكرارا، حتى تَفشل وتَنهزِم أمام تحدياتك، حتى تَسقط وتجرحك الحياة.
لقد كان من الضروري أن تكون ضعيفا لتغدو قويا، كان لا بد لك أن تَنكسِر لتنتصِر، وتسمو فيك خِصال الفوز والسلام.
“السلام”، كلمةٌ جعلتني أبحث طويلا بين الكتب، وأكتُب عن تجلياته في الحياة كثيرا، ربما يكون لكتاباتي فرصة الوصول إليك ذات يوم.
صديقي الغريب، إن القوةَ لا تأتي من فراغ، ولا يُشَكَّل الصلصالُ فخارا ولا طوبا قبل أن يُحمى.
لا يُكتسَب الصمودُ من فراغٍ أيها الغريب، ولا يعود الإنسان ثابتا دون عثراتٍ تَهزِمه طيلة الطريق، حتى يتقبل ضعفه وينتصر لنفسه على نفسه.
لا تتأمل شخصا يبدو لك في الظاهر كالجبل، وقبل ذلك كان كالزجاجِ المُنكسر، لا تتأمل قوته فقط، بل تأمل طريقه، وكيف صار كذلك.
أيا صديقي، إننا من نجعل من أنفسنا أشخاصا ثابتين لا تهُزنا العواصف، أو أشخاصا ضعفاء تتلاعب بهم الرياح كيفما كانت.
فلا قويَّ إلا ووراءه ضعفٌ عظيمٌ، وإيمانٌ أنبت صمودا، ولا قويَّ إلا وقد أنهكته العتباتُ، ويقينٌ أعظم أزهر ثباتا.
حقا يا صديقي، هل سبقَ لك أن شعرت بحضور ظِلك الطفولي حين يهطل المطر! يصمُت فيك ضجيجٌ قد أثقلك، قطرةً قطرةً، وقد غمرتك الدهشة والبراءة.
حينها سترى كيف يمكن للضعف أن يغدو قوة، وكيف يمكن لنا أن ننتصر حين نتقبل البراءة فينا، وحين نحب دهشتنا الطفولية.
فلتشمُخ يا صديقي كأنك لم تنكسِر أبدا، ولتَصنَع من الشتات المُنتاثِر منك شخصا قويا لا تهزه الرياح.
دمت سالما صديقي الغريب.