عزيزتي غزة…

عزيزتي غزة…

لقد قررت أن أكتب لك رسالة كل حين، فاعذري تقصيري، واعذري عجزنا اللامُبرر.

أما بعد..

السلام على فؤادك حتى يطمئن. سأكتب لك دون أن أنسى إخوتك، فقد وهبت كل واحدة منهن جزءا من قلبي، هناك إدلب تنتظر لكنها صامدة تبتسم، حلب أيضا تريد أن تزرع الحياة مجددا، قُدس ما زالت ثابتة على الحق، أنت تعرفينها أكثر مني، سيدة الأرض..

جِنينٌ ترسل لك تحياتها، وتقول لك، مجدُ البندقية من يعيد الوطن، فلتثبتي لنتعلم منك درس المقاومة. يافا الجميلة لم تفقد أبدا رونقها، وعكا علبة من عطر تعشقه رغما عنك.

هناك في المدى القريب، تقف دِمشقٌ وحيدة، رغم كل هذه السنوات، ما زالت تشع جمالا، ياسمينٌ بين الوجنتين، ليلُها المضيء بالحب، هي هناك.. تنتظر. وفي كل شطرٍ من الأرض أخ وأخت لك، جرحى، ينزفون دما، يحلمون حبا. فلا تَهني يا عزيزتي ولا تحزني، واصبري، فنصرُ الله قريب.

عزيزتي غزة؛

هل أبوح لك بسر؟ نحن نخجل منك حقا، حين تسمعين بكاءنا ونشيجنا، فنحن لا نبكيك، بل نبكي أنفسنا، نبكي عجزنا، ولا أبرر ذلك أبدا.

عزيزتي، قد سمعت شاعرا يقول: “جميلة أنتِ كيوسف، وخانك العالم كإخوته”. كم من أخ وأخت لك وقف يتفرج على دمك يُسفك، كما فعلوا تماما مع أخواتك، هل هذه من شيم السابقين؟ قد تتساءلين؛ لقد تغيرت الطباع يا عزيزتي، حُكامنا بيادقٌ، وعرشُهم وهم، كزبد البحر.

لا أجد كلمات تكفيك، أو بلاغة تستطيع وصفك.. أنت مميزة، أنت غزة، ثائرة حرة. أقف أمام الغروب، وددت أن أتأمل ألوانه، أن أتحسس شعاع الشمس في قلبي، لكن صوتا أنثويا يأتي من بعيد؛ “يوسف ٧ سنين، شعره كيرلي، أبيضاني وحلو “، صوتَ أمّ مبحوح، تنادي في الناس، هي تبحث عن صغيرها في المستشفى.

أي ضجيج يحمله صدر الأم في لحظتها تلك؟ ألوْنُ الغروب يبقى كما هو، بعد كل هذا الحطام، بعد كل هذه الانفجارات؟ أبيضاني وحلو، كل أطفالك حلوين يا غزة، لا أحد يشك في ذلك.. كل أطفالك شهداء يمشون على الأرض.

عزيزتي غزة؛

أنت سيدة ولاّدة، وهذا ما يخيف المحتل، أطفالك حلوين، يعرفون قيمة الوطن، يكبرون مقاومين، لهذا السبب يحاول المحتل اغتيال الأطفال والنساء، لأنه يخاف من المستقبل.

فأطفالك بين شاهد وشهيد، شاهد على نصرٍ قريب، وشهيد أكمل مهمته فمضى خفيفا كالنسيم. العدو يخاف من المستقبل، لأنه يعلم ما ينتظره، فقد وهن وضعف ضعفا شديدا، وأنت الصامدة أمامه لسنوات، شامخة كالجبل.

“بينتقموا منا بالأولاد ” يقول وائل -الأب والمراسل- ثم بعد تنهيدة مثقلة يعقب: “معليش ششش، إنا لله وإنا إليه راجعون”. كيف يكبر فيكم هذا الإيمان يا غزة؟ كيف صارت قلوبكم مقاومة وراثةً؟

عزيزتي غزة..

السلام عليك حتى النصر. لا كلمات تكفيك، لا بلاغة قادرة على وصفك. قد غربت الشمس، وأنا أرى الظلام يحل.. تقف كل نجمةٍ في مكانها المعتاد، لكن قلبي لا يرى ليلة النجوم كما اعتاد. فأنت دوما قبالة عيني. ليلك الطويل، حين تبدل فيه ضوء النجوم، بأضواء الصواريخ، انفجار.. ثم انفجار.. خوفٌ وخوفٌ.. الذاكرة في هذه اللحظة صامتةٌ خجولة، لكنها في نفس الوقت متوهجة أكثر من اللازم، واضحة حد الجنون.

هنا الطفل يرى لعبته الصغيرة والبنت تدلل دميتها، وأم تشاهد خطوات الغلام الأولى، أب يقاوم ذاكرته.. أصوات مختلطة.. ذاكرة واضحة حد الجنون.

سيتساءلون؛ كيف تقف هذه المدينة صامدة كل هذه السنين؟ وتجيبين كعادتك؛ لأن على هذه الأرض ما يستحق الحياة، ولا قوة على الأرض قادرة على هزيمة الوطن الذي يكبر في قلوب الأطفال.

لا سلاح قادر على قتل الحلم بين أرحام النساء، وصدورهن. “هذه مرح كانت تحب الرسم، وهذه بيسان دكتورة”، لا يترك الصوت ذاكرتي، أي لون كانت تُحبه مرح، كيف كانت ترى النجوم ليلا، هل تُحب الورد الأرجواني.

بيسان كانت ستغدو دكتورة متوهجة بالحب، تزرع الأمل.. آه بيسان.. آه مرح.. فرح. ثم أسمع صوت درويش ينشد؛ “واقفون هنا، قاعدون هنا، دائمون هنا، خالدون هنا. ولنا هدف واحد، أن نكون”. أن نكون يا غزة، أن نكون.

كم مرة حملت فيها قلمي هذا لأكتب لك، ثم يسقط من يدي، دون أن أدري السبب، أخجلا! أم لأنه يغدو أبكم عند المصائب! وربما لأن غمازتيك حين البهجة تتراءى أمامي، فلا أجد حبرا يكتب عن حزنك!

أنت جميلة رغم كل شيء، أنت غزة، خلِقت ثائرة.. محاربةً، تكره الظلم.. حرة لا تترك ياقة الحلم. أبناؤك بين فاقد ومفقود، شاهد وشهيد.. جبالٌ من الحزن يعقبها غضب، غضب، غضب.. موجٌ من الغضب، ثم الثأر.

وأنا أراك.. تنفلت مني سلسلة الذاكرة مجددا.. حيث كان الموتُ قريبا مني، كنت أسمعه، أراقبه فيراقبني. حينها قد ضاعت مني الكلمات.. لم أستطع كتابة كلمة، لا شيء، فارغ أنا في لحظتي تلك، وفي لحظتي الآن..وها هو اليوم يزورك يا غزة.. أنت ترين الموت يمضي أمامك، حقيقيا.. ضيف ثقيل هو الموت.. لكنه أكثرهم واقعية وصراحة.

هل تعلمون كيف يموت المرء ببطء؟ خيط الأمل.. الانتظار.. الخوف، دقات الساعة، زفرة الخوف، ذاكرة منتهية، وداع الطريق الفجائي، لون السماء المنكسر فينا، حزام عشوائي من الذكريات، تعبُ الرجال، وقهرُ الابتسامة، ورائحة الموت التي تفوح في الأرجاء.

هل نطلب من الحزن أن يتجه إلى أقرب بوابة ويغادر هادئا كما نشاء، أو هادرا كما يشاء، دون أن يلفت الأنظار؟ (حسب مقولة مريد البرغوثي). فليذهب، ليتركنا وشأننا، فلنا شأن أكبر.. لنا وطن نبنيه، لنا وطن نُحرره رغم كل جرحٍ ودمعة، لنا حلمٌ ننسجه بخيوط من ورد.. لنا وطن، لنا حلم.

“شدوا حالكو، احنا مشاريع شهداء” ؛ يأتي صوتٌ من بعيد. أنتم يا غزة تعلموننا معنى الثبات أمام المصائب، تدرسوننا كيف يصمد المرء أمام الأهوال. نحن تلاميذك، وأنت من تُعلمنا كيف نحب الحياة، كيف نبني من حجرٍ حلما ووطنا، كيف نزرع الحب لنحصد ثمره الجميل.

فلما بلغ مني الحنين ما بلغ، أربط قلبي بسوارٍ من حب، وأزرع بين جنباته شتلة ورد. “صوتي واضح، صوتي واضح ” يوقف باسل سهوي، لأبحث أنا الآخر عن أجوبتي.

أنت لم تنهزمي يا غزة، بل انتصرت.. لقد أظهرت للعالم وجه الغرب الحقيقي، حطمتِ أوثان الحضارة الغربية التي صنعوها طوال السنين، فقالوا لنا؛ اعبدوا هذا الوثن وامضوا في سبيله.أنت اليوم قد جعلت الناس يتساءلون، ويسائلون أنفسهم، فحين أرى طفلا استشهد، ثم رجلا ثبت على الحق رغم كل شيء، يهزمني السؤال؛

“هل حقا نحن صالحون بما فيه الكفاية؟ ماذا زرعنا لنحصده اليوم لو وقف الموت أمامنا فجأة؟”.

عزيزتي غزة؛ أنت لم تنهزمي.. أنت التي انتصرت.‏ يحملني فؤادي إلى زمن الوحي، فأسمع النبي يطمئن أصحابه بعد استشهاد عدد كبير من الصحابة في غزوة أحد، ثم يقرأ عليهم الآية: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139]

عزيزتي غزة؛ لا تصالحي.. رغم كل شيء، اثبتي.. أنت حرة والعالم بأكمله مقيد.. رغم كل الجراح، اصبري.. فإن نصر الله قريب.

والسلام عليك حتى يطمئن فؤادك.

1xbet casino siteleri bahis siteleri