أنفـلونسَــر
أَن تُصبح شخصا مؤثرا لا يحتاج لِتوابل أو خلطة سحرية، الأمر يحتاج فقط هاتفا آخر، إصدار ذو جودة عالية ومنظر جذاب أو لا داعي للجاذبية فمؤثرات الكاميرا ستمنحك هذه الميزة، وهنيئا لك بالتّربّع على عرش التأثير وصناعة محتوى يستهلكه الجميع كيفما كانت جودته.
حساب على الأنستغرام وملايين المتابعين يمنحونك أنت وأفكارك صفة القَداسة بعدما تمّ تصنيفك ضمن المؤثرين الواعدين، فوجودك من ضمنهم يمنحك الكثير من الامتيازات لِتُصبح لك طقوسا خاصة في ذاك العالم. فعلى القائمة توجد خبيرة التجميل الّتي كانت لا تُجيد حتى العناية ببشرتها الخاصة، ها هي الآن تختفي بين الأرقام وتُخفي وجهها بين مساحيق التجميل و “فَلاتِـر” الهاتف، تَتَفنّن في عرض جوانب حياتها وإظهار نمط عيشها وأيضا عرض كل المنتوجات التّجميلية الموجودة في العالم على نساء يَجلسن أمام الشّاشات، حلمهُنّ الحصول على وجه أنستغرامي يتمّ التسويق له ووهم العالم به، هذا الحلم الذي لا يتحقّق لا بمنتوج طبِّي ولا بوصفة طبيعية سحرية، تُطلِق على نفسها صانعة محتوى ومؤثرة وإنسانة مثالية، لها علاقة زوجية ناجحة كتلك التي تُكتب في سيناريوهات المسلسلات، منزل الأحلام، حياة وردية تعيشها بطولها وعرضها، كل شيء متاح في عالمها، كل هذا الاستعراض يخلق لدى الأُخريات رغبة في أسلوب حياة مشابه لها، حتّى أن الأمر يتحوّل إلى هوس ومرض نفسي؛ هوس بالشُّهرة والثّروة، لأن السّعادة حسب اعتقادهن وحسب ما تمّ الترويج له هي كل شيء مادي.
الأمر لم يتوقف هنا وتجاوز التسويق والتّجارة وبيع الجمال الوهمي، لقد ذهبت بعضهنّ إلى إعطاء النصيحة وتقديم دروس في مواضيع اجتماعية مهمة وحسّاسة، فئة تتكلّم في الزّواج وأسس نجاحه حسب تجربتهنّ النّاجحة “أَنْستَغْراميّاً”، وفئة تتكلم في الطلاق وتعطي أسلوب حياة لما بعد تلك المرحلة، حتى أنها تتناول جوانبه الإيجابية، والحرية التي تُمنح للسيدة بعده، بمعنى أنّهن يروِّجن لفكرة أن الحرية ثمنها هو الخروج من مؤسسة الزواج، وعلاقة بهذا الموضوع أتذكر مؤخرا خروج إحدى المؤثرات المشهورات، بمقاطع “فيديو” تشكو وتُحدِّث عالم المتابعات بمشكلتها الزوجية وفشلها في ضبط الأمور، ظهرت بحالة سيئة، منكسرة، ضعيفة، هذه السيدة أو المؤثّرة كما يحلو لها أن تسمي نفسها وتسمع بلسان “فانزاتها”، سابقا كان اختصاصها تقديم النّصائح لمعشر النّساء في فنون الرد، وكيفية تدبير الحياة الزوجية لضمان نجاحها، وكيف تُبنى الشخصية المثالية للزوجة والتي تواجه بها مطبّات الحياة، وتقي بها نفسها من تأثيرات البيئة المحيطة بها، وَصْفتها السحرية التي هي من صُنع يديها لم تجدي نفعا معها فكيف لها أن تؤثر في جيل من النساء.
فما لا يراه العالم وما لا تراه المراهقة التي تجلس لساعات تتخيّل نفسها وسط شاشة الهاتف أن تلك المؤثرة وبنات سلالتها يُتاجِرن بكل شيء لهنّ في سبيل تحقيق أرباح مادية؛ يُتاجِرن بمظهرهنّ، بحياتهنّ الخاصة، بعائلاتهن وأهم وأخطر شيء هو المتاجرة بخصوصيتهّن، وأن المحتوى الذي تقدمه محتوى فقير وهزيل أحيانا، يخالف كل عاداتنا كمجتمع محافظ له مقدساته وثوابته الدينية، كل هذا نتيجته إنجاب جيل حياته حبيسة جدران الهواتف وحسابات يتابعها الملايين ممّن يعيشون الوهم وينتظرون لحظة وصولهم أيضا لتلك المرحلة، فتصبح كل الطرق والوسائل مُباحة حتى تلك التي تخالف القيم الاجتماعية.
ليست المرأة وحدها من حجزت مكانا لها في عالم التأثير للرجل أيضا نصيب من هذه الثروة، فمِنهم من نهج نفس مسار تلك التي تهتم بالجمال والموضة، هو الآخر يتفنّن في عرض مختلف جوانب حياته الخاصة، مواظب على ذلك كسنّة حياتية واجب القيام بها، يطِل على متابعيه بشكل منتظم، يحدثهم عن روتينه اليومي بكل تفاصيله، زوايا منزله، أسرته، وأنشطته خارج المنزل، يتقاسم معهم كل شيء ولا يجد حرجا في مشاركته معهم منتوجات العناية بالبشرة حتى تلك الخاصة بالنساء، من باب تقديم النصيحة لهن وتوجيههن، هذا التوجّه يصيبك بنوع من الصدمة؛ فكيف لرجل أن يفهم في مجال الأنثى؟ حتّى أنّه ينصحها بهذا ويمنعها من استخدام ذاك، يعرف تفاصيلا كثيرة عن حياتها ليصبح بوصلة متابعاته في هذا المجال، قد يبدو أنه تطور يسمح للرجل بالتعبير عن نفسه بشكل أكثر وأوسع، لكنه في الأخير هو تطاول وانحراف عن المسار.
هؤلاء وآخرون بمختلف أجناسهم؛ تصدّروا المواقع ويحصلون يوميا على ملايين المشاهدات بل مئات الملايين على محتوى ترفيهي تافه، يقف في وجه الإبداع، الابتكار، القراءة والبحث عن كل ما هو مفيد، وضريبة انتشاره هي اختراق الخصوصية، العائلة وحرمتها.
يوجد صنف آخر من صناع المحتوى، يصنف نفسه في خانة المثقف، يرى أن الجميع تافه ويروج للتفاهة وسبب خراب الأجيال، هذا الصنف وضع على عاتقه مهمة محاربة هذه التفاهة حسب زاوية رؤيته وفهمه، ويعمل بكل جهد لينصح العالم بالاستغناء عنها، يجيد استخدام مواقع التواصل ويوجهها للمسار الصحيح والحقيقي، هو المرجع ونقطة الانطلاق لأغلب الشباب، ينقل المعلومة بأسلوبه، يلخص ما يستعصي على الجمهور فهمه، ولو كان تلخيصا سطحيا وتُمرّر من خلاله معلومات ومفاهيم مغلوطة، يبقى في نظرهم المحتوى الأرقى من بين جميع المحتويات، بدون شهادة علمية أو تكوين يعادلها تجده يفسر ويتحدث في موضوع معقّد أو علم مُتخصِّص ويلخصه في بضعة دقائق والذي قد يحتاج في الواقع لِقراءة عشرات الكتب لمفكرين كبار ومشاهدة لقاءات تصل للساعة فما فوق، فقط للفهم ولكنها معجزة أن يوجد صانع محتوى يختصر عليك الطريق، وينقلك إلى طريق آخر يسميه الأسرع والأكثر فاعلية، ولكنه في الحقيقة طريق غامض، باهت، ميزته السطحية في الطرح الثقافي، تعيش فيه وهم الثقافة وتعتبر نفسك من النخبة المثقفة، حتى أنك ستشعر بنفسك ممتلئا بالمعلومات حدَّ التُّخمة، تفهم كل شيء وتناقش في كل شيء، لكن شريطة أن يكون طرف النقاش قد سلك نفس مسارك وشرب من نهر معلوماتك، لتقفا معا في نفس المستوى، لأنك لن تستطيع تجاوز المربع الذي وُضِعْت فيه والمعلومات التي مُنحِت لك، ولن تستطيع تجاوز ذاك المستوى المعرفي السّطحي، ولأنك أخيرا ستكتشف كم أنت فارغ مقارنة مع الآخرين، وأنك أدمنت متابعة أناس أوهموك بالمحتوى الإيجابي، كل هذا من أجل إحداث ضجة إعلامية.
وبمجرد تجاوزهم عتبة الألف مُتابع سيتقمّصون العديد من الأدوار؛ يجعلون من أزماتك ومعاناتك مشاكل بسيطة وحلولها سهلة، ستتجاوز كل فشل تعيشه، وتتخلّص من همومك وعقدك، يحاولون إقناعك بفكرة أن الوقوف أمام المرآة كل صباح والإفطار على عبارة “أنا ناجـح” ستجعل منك فعلا إنسانا ناجحاً، كل هذا يتحقق من خلال متابعتك لهم ولمحاضراتهم السطحية، يصفقون لأنفسهم لأنهم يخالفون الرأي العام، يبنون شخصياتهم على مبدأ خالف تُعرف، يبيعون الوهم ويخلقون لك علاقة متوترة مع الحياة، فتصبح عدوا لك يجب محاربته، يزرعون في دماغك فكرة أن الإنسان عبارة عن آلة بمقدوره تحمُّل أكثر من طاقته، وعليه أن يكون ناجحا في كل مجالات الحياة ويملك قوة خارقة، قادر على تحقيق أي شيء بمجرد رغبته بذلك، غافلون عن حقيقة أن لكل واحد قدراته الخاصة.
قلائل هم صُنّاع المحتوى فعلا وقولا، الذين يستحقون التصفيق أولا والإدمان على المُتابعة أخيرا، يزيلون ما علق في ذهنك من مستنقع صناعة المحتوى، ويصحِّحون ما تمّ تمريره لك على أنه علم ومعلومات مفيدة، وَمُجبرون نحن على البحث عنهم من بين الملايين من صنّاع المحتوى.
السؤال الذي يطرح نفسه في كل مرة يُطرح فيها هذا النقاش هو: من نُحمّل إذا مسؤولية غياب هذه الفئة وتربّع الأخرى على عرش الطوندونس؟
الحقيقة هنا أننا نحن من نتحمّل المسؤولية في انتشار هذه الظاهرة وجعلها تطفو على سطح حياتنا اليومية وتفرض نفسها، نحن من استهلكنا إنتاجاتهم سواء بحسن نية أو عكس ذلك، وإن تبرأنا نحن، فهناك من يناسبه ذاك المحتوى ويلبِّي احتياجاته ويستمتع هو بالغوص بين ثناياه، ولا يمكننا منعهم من ذلك لأن لشعوب العالم اهتمامات يومية مُختلفة قد لا تُناسب الجميع؛ إذاً الحلّ الوحيد أن “نُميت الباطل بالسكوت عنه” وأن نَصنع مناعة لنا، نُحاول تقويتها بالعقل والبحث والنقاش مع مختلف الأفكار، ونَبني لأنُفسنا حِصْنا يمنعنا من السقوط في حوض صناع المحتوى الذين معيار ثقافتهم هو الملايين من المتابعين، ونكون حذرين من أن نَنْقاد خلفهم، وأن لا نكون مروِّجين للمحتوى السّام، ولا نجعل ممن يلهثون وراء “البوز” ويعيشون على الفضائح؛ قدوة لنا ولأولادنا.