رمضان بين العبادة والتّرنْد

قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ ۚ} [البقرة: 185].
المعروف أن كل الأشياء المتكرّرة باهتة إلا هذا الشهر المبارك والأعظم؛ شهر الرحمة والغفران، شهر الصيام، والتسامح، وإحياء صلة الرّحم. بالإضافة إلى أنه من أهم الفرائض لقوله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183]، فهو فرصة لتعزيز التقوى والانضباط الذاتي والنفسي، فرصة أيضا لتجديد العهد مع الخالق والتوبة من الخطايا والذنوب، وفترة مهمة جداً لإعادة تركيب الأجزاء المبعثرة فينا، التي بعثرتها ملذّات الحياة وملهياتها.
هذا الشهر تُعظَّم فيه جميع العبادات والشّعائر بدءا من نيّة الصيام وصولا لمائدة الإفطار التي يُعدّ الجلوس إليها واجتماع العائلة والأحبّة لتبادل الأطعمة وكل المشاعر الإيجابية من أعظم النعم التي تظهر ويزول عليها اللِّحاف في هذا الشهر الفضيل. ولأن جميع المناسبات كيفما كانت قيمتها تسبقها تحضيرات قبلية، فشهرنا هذا أيضا يأتي بعد مجموعة من الترتيبات والتحضيرات،
فمثلا على مستوى الجانب التعبّدي تجد المسلم يستعد بأسابيع بل أشهر لهذا الشهر؛ يُكثر من العبادات، يستعدّ نفسيا للصيام بل يحاول تعويد نفسه بصيام أيام متقطعة، يُصلح ما أفسدته الأيام الأخرى، يكتسب عادات ويتخلص من أخرى والتي من شأنها أن تُبطل ما يقوم بتلميعه وتنظيفه، والأهم أنه يواظب على واجباته التّعبدية، وتكون الحَلَبة خالية من الشياطين فيكون هو ونفسه في مواجهة لا تكون بالسهلة، يحاول السيطرة عليها وضبطها ومحاولة إرجاعها للطريق المستقيم في حال انحرفت قليلا.
تزيين المنازل، تنظيفها، وإعادة ترتيبها؛ هي عادة قديمة متجذّرة لدى جميع الشعوب المسلمة وتعكس مدى طهارة الروح ونقاوتها، وتعظيمٌ لهذه الشعيرة ومحاولة منهم لخلق جوّ جديد، استثنائي، وخاص بهذا الضيف العظيم والراقي. ومن باب الاستعداد أيضا تكون الأسوقة مكتظة، أمام الدّكاكين الكبرى قد لا تجد موضعا لقدمك، المتطلّبات كثيرة، أصبح كل ما هو ثانوي بطل القُفة ولا يمكن الاستغناء عنه، الأسر تتسابق والحركة لا تنقطع طيلة الشهر وقبله أيضا، المشهد هنا أشبه بالنمل الذي يحمل مؤونة السنة، يحرصون على ادّخار جميع الحاجيات قبل حتى أن تثبت رؤية الهلال بأسابيع وتكديسها في المنزل.
هذا المشهد يجعلك تتخيل أن الدّكاكين ستغلق أبوابها طيلة شهر رمضان وأن السِّلع ستنتهي ولن تكون متوفرة وهذا فيه نوع من المبالغة وكثير من الإسراف. الأمر لم يتوقف عند اقتناء حاجيات رمضان بشكل غير معقلن بل ظهرت ثقافة أخرى؛ هل نطلق عليها ثقافة، عادة أم “موضة” ظهرت في عصرها؟ ربما أجد المصطلح الأقرب وهو “ترند” بلغة الإنستغرام ومشتقاته من المواقع الأخرى ولما لا وحياة أغلبنا ارتبطت ارتباطا وطيدا بها.
هذا “الترند” تصدّر العناوين حتى أنه أصبح بمثابة محتوى لبعض صناع المحتوى؛ وهو تجميد بعض المواد الغذائية من باب الاستغناء عن كل المهام المتعبة وتوفير الوقت؛ البرتقال، الطماطم، الحليب، الخضر والفواكه، التمور، كل هذه الأشياء قابلة للتجميد وستجدها في أكياس أو علب بلاستيكية تحجز مكانها في المُجمد، وهناك من ذهب بهم الإبداع الى تجميد الشاي والعصائر. هذه العملية لا تُحترم فيها شروط التجميد وتضرب من خلالها سيدات المنزل ما يوصي به الأخصائيون والأطباء عرض الحائط، وهذا فيه تأثر واضح بما يُنشر على مواقع التّواصل، فهذا المقطع يحثك على تخزين هذا الغذاء ومقطع آخر ينصحك بتناول هذه الوجبة وعدم التخلي عن وجبات أخرى، بمعنى أنهم يصنعون لك نمطا غذائيا خاصا بهم لا يحترم ما يحتاجه الجسم وما يجب أن يتخلص منه، ويخلقون عادات غذائية جديدة يجب على الجميع أن يتبنّاها، حتى أصبحنا نرى أن شهوات البطن في هذا الشهر تسمو فوق طقوس العبادة والتقرب إلى الله، ويُنظر له على أنه شهر للتلذذ بكل أصناف الطعام والشراب.
العبادات في هذا الشهر انحرفت عن المسار الصحيح وتأثرت بعصر السرعة وبمواقع التواصل، ختم القرآن مثلا لم يسلم من لعنة “الترند” فبات صانعو المحتوى الإنستغرامي السريع يتفنّنون في رسم الخطط لختمه لأكثر من مرة وكأننا في سباق، والحقيقة أنه لا يمكن للجميع ختم القرآن أكثر من مرة وبشكل طبيعي. هذه الطريقة تشتت التركيز وتبعد القارئ عن التدبّر في الآيات والإبحار في كلام الله ومحاولة الخشوع فيه والأصل في قراءته هو التدبر فيه وإدراك معانيه الكثيرة ومحاولة فهمها.
موائد الإفطار أيضا داخل هذه اللعبة، تُنشر الصوّر دون توقف وذلك من باب التّباهي والاستعراض دون مراعاة لمشاعر الفقراء والمحتاجين غير القادرين على توفير الضروريات، وهذا سلوك غير أخلاقي يؤثر سلبا على من يشاهد تلك الصور خصوصا من هم في سن المراهقة.
رمضان شهر أسمى من كل هذا، شهر الرحمة والغفران، شهر الصدقات والإحسان الى الآخرين، جاء لتهذيب النفس وتضميد الجراح تلك التي توجد بالروح جاء لتطهير النفس والتّزود بالأجر والثواب، والتعود على الصبر والتّحمل، فنتمنى أن نسير فيه على نهج يرضينا ويرضي الله قبل كل شيء.
1xbet casino siteleri bahis siteleri