آخر العمر

عندما أخبرك عن آخر العمر، أول ما يتبادر إلى ذهنك عجوز على فراش موته، أمضى حياته وعاش أيامه، جو مسالم من الاستسلام للنهاية، فصل أخير متناسق في رواية طويلة يكاد صاحبها يكون راضيا عنها، ويقبلها بفصولها الفخورة وفصولها الخجولة.

آخر العمر؛ يرتبط في ذاكرتنا الجماعية بالعجز والوهن وشيخوخة العقل والجسد!! نريد دائما أن نتذكره كشجرة ذابلة أنهت حقها من الحياة، وامتص الزمن قوتها وصلابتها وحيويتها كما يجيد أن يفعل. لا يمكن للأمر أن يكون عادلا إن لم يكن كذلك، يشبه مواساة اندفاعنا المجنون نحو المستقبل، ثقتنا العمياء في استمراريته، وإصرارنا الجامح على أن نكون وأن نحيا، مواساة تخبرنا أن نهايتنا بعيدة، أنه ما زال للعمر بقية، أن آخره سيكون منطقيا ومنسجما مع كل ما ينتظرنا، كل ما يجب أن نتعلمه ونفهمه.

في المقابل، يرعبنا إدراك أن الكثيرين يعيشون آخر عمرهم الآن، في أوج شبابهم وأوج طموحهم واندفاعهم، أنهم يرحلون دون أن يستوفوا حاجتهم من الحياة، الأمر يبدو أكثر تكشفا عندما يخص الأطفال الصغار أو الشباب، يكون رحيلهم مأساويا، يفزع له القلب ولا يستوعبه الذهن! أولم يكن يفترض بالأزهار اليانعة أن تتفتح؟ لكننا نشعر بأنها تقتلع، تقتلع من نفوسنا! فيغمرنا الإحساس بالعبث، بأننا لم نفهم المغزى إطلاقا وأنه علينا الاستيقاظ قليلا. العمر ليس صفقة نمضيها مع القدر، وليس اختيارا؛ نخضع له، هو واقعنا المعاش. العمر يمضي سواء أردنا ذلك أم لم نرد، ينتهي سواء قررنا ذلك أم لم نفعل، متى آخره؟ قد يكون غدا أو اليوم!

نسمع كثيرا عبارة “عش اليوم كأنك تموت غدا”، لكنها لا تتردد في دواخلنا، لأننا لا نستوعب أننا حرفيا قد نموت غدا، ما دمنا بصحة جيدة، ما دامت خططنا واضحة، وما دمنا نعيش في أمان واستقرار فالأمر لا يعنينا، فتوهمنا أفكارنا التي نعيش من خلالها أن الوقت المتبقي كاف لنفعل كل الأشياء التي تراودنا، وأن أهلنا سيظلون حولنا للأبد، أن الأيام الرتيبة لا بأس بها، وأن ضياع الوقت ذنب يغتفر، ثم يحدث أن يرحل أحدهم عنا، فتزول الغشاوة من قلوبنا، ونفهم كل شيء كان ينبغي عليك فهمه.

لم يكن يفترض بالحياة أن تكون كما نعيشها، هي ليست مشروعا أو خطة يرسمها لنا الآخرون، هي اللحظة الراهنة وسحر الوجود يكمن في قربنا من الحتف وبعدنا عنه في نفس الوقت. هذا الحيز من المجهول يساوي في نفوسنا الأبدية، لكنه أيضا يساوي حياتنا القصيرة. الآن، هو البداية وهو النهاية، هو المشاعر الخالدة وهو الفعل واليقظة، سنحمل في قلبنا ما يكفي من المحبة لنعيش العمر كأنه يوم واحد فقط، يوم لا أمس له ولا غد ينتظره.

مقالات مرتبطة

الغد ليس مضمونا على أية حال، كأننا نجلس جميعا في يدنا تذكرة رحيل نجهل تاريخها، لكننا نحملها رغما عن ذلك! قد نقرر أن نتناسى الأمر تماما، وقد نقرر أن نتذكر، رغم أن الأمر سيجعلنا نشعر بالغرابة، والانفصال والرعب في بداية الأمر، لكنه سيحملنا مباشرة إلى أكثر نسخنا روعة وبهجة وحياة.

 

عندما يصبح آخر العمر قريبا قرب غروب الشمس في شعورنا، نتوقف عن الاهتمام بالأشياء التي تشعرنا بالحزن والانطفاء، والكسل والتخاذل، أو الانهماك فيما لا يهمنا ولا يعنينا، سنصبح شغوفين بالحياة نفسها وسيظهر المعنى في كل شيء حولنا، سنقطع العلاقات التي تثير فينا القنوط والسلبية، سنتوقف عن قول نعم عندما نريد قول لا، ستتحقق أحلامنا الواحدة تلو الأخرى بعدما تتحرر فينا الإرادة طاهرة من الخوف!

عندما يفكر الشخص في الأمر ويستشعره، كأن شعلة من الدفء داخله تتقد، ما يسميه البعض حب الحياة، حب إتيان الأشياء إلى الوجود، يصبح العمر قصيدة يجب أن يكتبها بعد أن كان درسا عليه أن يتعلمه، يصبح الناس والتجارب مصانع للدهشة، يصبح تذكر الموت نفسه مصدر إلهام ومرآة وحافز.

آخر العمر، نسير نحوه ويسير نحونا، لا بد أن نكون مستعدين له، وأن يجدنا راضين، رضا لا ينتج عن مرور الزمن وتعاقب السنين، بل رضا آني، قرار بأن نكون سعداء رغم كل شيء، سيجدنا قد قبلناه بعد أن أحببنا بما يكفي، وسامحنا بما يكفي، وأبدعنا بما يكفي، سيستقبلنا سواء كنا عجزة أم يافعين، كحفلة زفاف؛ مع الأبدية.

1xbet casino siteleri bahis siteleri