تواجد في اللاتواجد: هوية في هويات

قال لي صديق لي ذات يوم، حيث إن لا أصدقاء كثر لي، أن الصداقة خدمات تنَفّذ باسم العاطفة والمجانية. كل ما قاله لي علي بصوته الخشن جعل فحوى كلماته تكاد تثقل كاهل من أمرني بالمعروف والتعارف. أن علي شخص فريد من نوعه بحيث إنه صديق الكل ولا الكل صديق له. يقرأ الكثير من الكتب، كما أنه كثير الجلوس في غرفته، حبيس أوراق جعلت منه سجين أفكار مجردة.

لقد اعتبرت كلامه جزءا من البلادة والاستهتار، ورغم أني أعتبره صديقا له من العلم والحكمة نصيب الأسد إلا أن ذلك اليوم، إذ كنا نتحدث في أمور تافهة لها علاقة بكرة القدم والعلاقات الغرامية والسياسة، اعتبرت ما أورده علينا فارغ وخارج عن الموضوع. لم يكن يحلل إذ لم يكن كثير الكلام ثرثارا مملا.

بينما كنا على وشك المغادرة بعدما جلسنا لمدة طويلة في أحد الحدائق العامة للمدينة الزرقاء، استوقفته سائلا بعدما قال: “هيا لنغادر حالاً لأنه لا نمتلك، لا أنا ولا أنت ولا صديقنا البئيس هذا، حبيبة، لا أرى أي داع لبقائنا، بل أرى أنه بذلك سنزعج قدسية لحظاتهم العابرة.”

فقلت: هاي! توقف، أجبني عن سؤالي هذا: لماذا تعتقد أننا نحن الثلاثة لا حق لنا أن نعيش كما نحلم، أوليس بذلك يتدفق أدرينالين الأمل والنجاة في عروقنا الهشة؟!” حدَّق بي لمدة طويلة ثم ابتسم ساخرا كأنه اختصر الطريق عليه لكيلا يرهق نفسه بالإجابة. فهمت من نظرات وجهه تلك أنه رفض إجابتي، كان يخفي أشياء عدة. كان يمتلك الجواب الذي أريد. لا أريد أن أتوقف عن التفكير. لا أريد أن أرهق نفسي أو أن أرهق معي ضرورة التجربة. أحسست أن علي يمتلك في جعبته ما يمكن أن يجعلني أستشعر مستقبل الصداقة. بعد إلحاحي الشديد وبعد تهربه بطريقة مزعجة من سؤالي. قال: “هذه أسئلة سخيفة! من أين لك أن تسأل، ولم؟”

ضايقني جوابه هذا، لا أحب هذا ولا أعرف لم على جل المغاربة أن يجيبوا عن أسئلة بأسئلة أخرى؟ هذا ليس من شيم الطالب وخصوصا طالب مثلك: “قلت له واضعا يدي على أحد كتفيه: لا أيها الأفلاطوني! لا أمتلك جوابا سوى أسئلتي هذه. قام مباشرة بعد ما نزل علي جواب علي هذا كالصاعقة بإزالة يدي عن كتفه الرياضية وقال لصديقنا الصامت: هيا لنذهب. أسرع.

أجابه صديقنا حذيفة بكل برودة: ولم أنت على عجلة من أمرك؟ لماذا تريد أن تذهب إلى المنزل بسرعتك هذه وكأنك أحد لاعبي ليفربول، تجري كالحصان على عشب الإنفيلد.

واصل حذيفة مسائلا عليا بينما انهمكت أنا في الحديث مع رجاء على الهاتف لمدة من الزمن. أعلم أنكم تتساءلون كما تساءل أصدقائي عمن كانت المتصلة الغربية. بينما كنت أنا الذي لم يُر أتحدث مع شخص من عالم الأنوثة، وقف صديقاي الاثنان مستغربين من جمالية الموقف. لقد ظن كلاهما أن القدر قد أنعم علي بخليلة جليلة تلك الليلة. حاولت مجاراة توقعاتهم الساخرة محاولا محو ما كانوا يتوقعون، حاولت أن أوجه موضوع حديثنا بإعادة صياغة سؤال حذيفة لكن بذكاء أكبر…لنفترض أنك وضعت الهاتف في الشحن، لكنك لا تنتظر أية مكالمات غرامية ولا اكاديمية هذه الليلة، فلم عساك تقوم بشحنه كل مرة وكأنه طفل رضيع؟! فيم تحتاج الهاتف؟! على حد علمنا، أنك لست شخصا فايسبوكيا، ولا أنستاجراميا؟!”رد علي بسرعة وبدون تفكير حتى أنني ظننت أنه يستهزئ بي: لربما أنا شخص تويتيري، ثم نظر إلى السماء ثم إلي مباشرة وقال: لماذا تسأل بغزارة؟ نحن في فصل الصيف! لا تسأل!” أجبت بكل ثقة: لأن الفلاسفة دائما يسألون ويتساءلون. رد علي بخشونة تماما مثلما تفعل القطة عند شعورها باقتراب الخطر: “أولئك الأشخاص ملاحدة!” ثم ابتسم.

إنه شخص غريب حقا. لا زلت لحد الساعة لا أعرف سبب ابتسامته تلك. يضحك حتى في الأوقات التي يُطلب منه فيها أن يظهر ملامح الجد. قال: “اتق الله”. أجبته بأنني أثق في الله وأتوكل عليه وأتقيه حق تقاته وكان أحد أهدافي هو تهدئته ثم سألته: لماذا تقرأ؟ قال: لا أقرأ للملاحدة، أقرأ لعبد الله العروي ومحمد عابد الجابري وطه عبد الرحمان ووائل حلاق كأمثلة. أجبته: هؤلاء فلاسفة. قال: إنهم فلاسفة مسلمون. فقلت: بل إنهم مفكرون عرب تلقوا تكوينا فكريا غربيا. إنهم اناس تشبعوا بالفكر الفلسفي الغربي فجل الأسماء التي أتيت على ذكرها لا تخلو أعمالها من تطبيقات فعلية وإسقاطات موضوعية على نظريات فوكو وفرويد، أكبر ملاحدة العالم وأبرزهم تأثيرا في الفكر الإنساني كما قلت أنت يا فخر العرب. هل تعرف من هو فوكو؟ هل تعرف؟ ااه! ودي سوسيور؟ قال: أسمع بهم.

فأجبت بطريقة بلهاء: أسأل الله أن يقوي إيمانك. تدخل حذيفة لإنقاذي من الغضب المقيت ووجه صفعة سطحية أخرى لعلي، وقال: لربما انت شخص تيكتوكي. أعوذ بالله: قال علي بصوت مُضحك ثم أردف، لم يتبق للحمقى سوى منادتي بالشيخة الكنبوشية. يا علي! لا تستحقرني فأنا أعلم أنك تعلم أن “تاشيخيت” رمز الحضارة المغريبة”. قلت له بغضب كبير لدرجة أنني جعلت بعض الناس توجه نظرها إلينا باستغراب: “لقد ذُهِل حذيفة من بلاغة الموقف! حذيفة هذا شخص عزيز على قلبي. صديق يحارب فشله في كل مرة. يحب كرة القدم ولا يتحدث في غيرها إلا إذا كان حديثنا عن ألعاب الفيديو أو “الفتاة المغربية”. لا يحب أن يتحدث في مواضيع ثقافية، فهو لا يقرأ لكنه يحب الخروج معنا نحن كما ينادينا “المثقفون البليدون”. ولذلك فإن خروجه معنا شكلي سطحي، يظل صامتا طوال الوقت. لكنه ذلك اليوم أثبت أن سؤال أن تكون مثقفا هو سؤال الفطرة. فقد كانت أسئلته بلاغية لم يستطع علي سبيلا إلى الإجابة عنها. وفي لحظة صمت عابرة، أردف حذيفة ساخرا: “لماذا لا تحمل هاتفك “الناقل” معك عندما نخرج معا؟”. فوجئ علي بما سمعته أذناه. فلم يجد مخرجا ليبعد عن كاهله ألم الإجابة عن هذا السؤال أيضا. فما كان له إلا أن يلجأ مرة أخرى كعادته إلى ابتسامة بيضاء بلا صوت! أنا ما زلت ألح، ألح، وأسأل. وبما أنه لا يريد أن يفسد يومنا ذاك وبعد تذمره من أسئلتي التافهة فرحت بعدما وافق على إجابتي.

أدار وجهه إلي وقال: أنصت جيدا. إذا كنت تريد أن تحصل على أجوبة، اذهب مسرعا إلى أصدقائك المشاكسين الثلاثة، وقم بتأملاتك الإدوارد سعيدية وستجد الجواب حتما. كنا على وشك مغادرة المكان. اتجهت يسارا وظللت طوال الطريق أفكر في الأصدقاء المساكين الثلاثة. فعلي أبى واستكبر ولم يرد أن يرشدني إلى هؤلاء الثلاثة المشاكسين. والآن تُركت وحيدا مع سؤالي وعبء الإجابة! وصلت إلى المنزل منهكا وجاءها. طرقت الباب آملا أن أسمع صوت أمي. صعدت السلالم وكان أول شيء فعلته هو التوجه للوضوء والصلاة ثم توجهت إلى المطبخ، أكلت ما قدمته لي أمي ثم خلدت إلى للنوم. لم أنم مباشرة رغم كل ذلك التعب الذي أحدثته محادثات علي وبلادة تدخل حذيفة ومكنونية الثلاثة.

1xbet casino siteleri bahis siteleri