عاديون بشكل استثنائي!

العاديون…يبدو أن الأضواء لا تسلط عليهم أبدا، أو ربما نادرا هم في كل مكان وزمان، جل معارفنا؛ جارنا الفضولي وصاحب دكان الحي، وسائق التاكسي، وزملاء الفصل هم الأغلبية الساحقة من البشر يعيشون حياة عادية تماما، بطموحات عادية، لا يريدون صعود أعلى القمم، أو جني أكبر الثروات، أو تغيير مسار البشرية، لا يريدون نجاحا ساحقا، أو اسما لامعا لافتا يصفق له الجميع، هم الجمهور الذي نتحدث عنه، هم العامة، الحشد الذين يحملون في حياتهم العادية كل تميزهم، بل ويجدون عظيم حريتهم فيها، تقدم لهم معانٍ لا يفهمها غيرهم، وتسمح لهم بأن يكونوا حقيقيين.

بين كل الأصوات التي تدعونا لنكون مختلفين، هناك صوت آخر بداخلنا يخبرنا أننا في الأصل كذلك، وأن طريق البحث عن الاختلاف سيدها الشعور بالنقص والبحث عن القيمة في عيون الناس، أناة جشعة تعاني من البؤس وتبحث عنه!

الرجل الذي يعمل ويجني قوت يومه، لديه منزل “عادي” وسيارة “عادية”، يمارس هواياته في هدوء، ويجتمع مع أصدقائه “العاديين”، لكنه يشعر بسعادة عارمة كلما التقى بهم، كلما أنهى فصلا من كتابه أو شاهد مباراة فرقته المفضلة، أو ذهب بأطفاله في نزهة نهاية الأسبوع. النساء اللواتي يتزين كما لو أن النهار حفلة يستعدن لاستقبالها، النشيطات في بيوتهن، المنهمكات في تربية أبنائهن. قد يخبرهن المجتمع أو النسويات أنهن قليلات حيلة، خاضعات، أو عديمات الطموح، لا يحملنا قضايا كبرى، لكنهن راضيات بقضاياهن الصغيرة اللاتي يمتلكنها ويحكمن قبضتها والتي هي في عيونهن كل بهجتهن واستثنائيتهن.

ما معنى أن نبحث عن الاختلاف! شحنة يأس عنوانها أمل تزودنا به موجة كتب التحفيز المحبطة! موجة عدم رضا وجنون تغمر عقول الناشئة، تحور طاقاتهم في الاتجاه الغلط، الكل يريد أن يكون فريدا، الكل يريد أشياء لا يفهم لم يريدها قبل مئات السنين، في القرى المنسية، في أزقة الأحياء المكتظة، لم يكن لأحدهم القدرة على تخيل حجم الرفاهية التي يعيشها الإنسان الذي أصبحنا نسميه اليوم عاديا، ورغم أن كل الظروف اليوم ملائمة للإبداع، إلا أنه يختنق في النفوس المتسارعة القلقة باستمرار! ولا ينبت إلا في القلوب الهادئة التي تجد الجمال في تلك اللوحة المرسومة أمامها على الدوام، في وجوه الناس وبرفقتهم وتستلهم من هدوء أحوالهم وبساطة معيشتهم وصدق إيمانهم.

 

عندما نذوب وسط العاديين نكون قادرين على إيجاد التميز بداخلنا دون أن نبحث عنه في مكان آخر! نفهم أن كوننا كذلك كاف وأننا يجب أن نكون سعداء بذلك! الشعور بالامتلاء والرضا بالحياة التي نعيشها اليوم! هو رجوع إلى الأصل وقبول لحقيقتنا! فنتصل بأشياء فينا لم نكن نهتم بها، وكانت تنفلت من يدينا في بحثنا المضنى عن الشعور بالتميز الوهمي، أشياء قوية جدا كالشغف الذي يعوض في قلوبنا الطموح والرضا الدائم بدل نشوة النجاح الزائلة.

الشغوف متميز بشغفه! لمعة عيونه وهو يتحدث عن حبه لما يفعله تجعله كذلك! انهماكه في تحويله من حلم إلى واقع يجعله كذلك، القصص التي لم تُحكَ، غير قصص الناجحين العظماء التي تروى على المنابر قصص الآلاف من الناس، بكامل جموحها وغناها وصدقها! انتقالهم من الجهل إلى المعرفة، عمق العلاقات بينهم، تشابكها، كيف يتسع في جوفهم الشعور كلما قلّبهم بالحوادث بين كفوفه الدهر! كيف يكبر الطفل، ويضحي الأب، ويقع الفتى في الحب، كيف يتصل الماضي بالحاضر بالمستقبل في لحظة واحدة، وكيف تبنى الحياة وتعطى وتصنع كل هذا الغنى أكبر بكثير من أن يسطح في كلمة “عادي”، في حقنة تبلد الشعور وتخدر الرقة في القلب!

لا بد ألا يفهم هذا الكلام على أنه عدو للعزيمة وإرادة التغيير وتحسين جودة الحياة بل هو على العكس! محرر لها، لأنها ستصبح صافية طاهرة من الشعور بالنقص، وبانعدام القيمة وفكرة أن الأغلبية الساحقة من الناس تعساء وكسلى وفاشلون رغم أنهم في الواقع هم بالرضا السعداء الحقيقيون!

لا خير في السعي للانفصال، لنكون في قمة الجبل! لأخد الحياة على أنها سباق، أو حرب ضارية، لا خير في أن نحتقر البسطاء من الناس، أن نحتقر البساطة! لا راحة في ذلك، ولا حياة كم من العذوبة في أن نكون قطرة ماء سعيدة في النهر، أن نكون كالجميع ومن الجميع وللجميع، في أن نكون عاديين بشكل استثنائي!

1xbet casino siteleri bahis siteleri