اترك نفسك تجدها!

نمني النفس بأجوبة شافية لأسئلتنا، مريحة لقلوبنا، تبعث فينا الطمأنينة وتحررنا. مع أننا مختلفون وكذلك طرقنا، لكنها تؤدي غالبا لنفس الأماكن، ربما لأن الروح التي تسري فينا توحدنا، أو لأن عوالمنا تتشابه أكثر مما نتصور، وأن ما يفرقنا مجرد قشور. لهذا السبب، كثيرا ما أجد ضالتي في الصادق من خلاصات الٱخرين، ولهذا السبب قد يجد أحدهم نفسه هنا، ويرى انعكاس نار حيرته بين هذه السطور.

نغرق جميعا -أو بعضنا ربما- في سؤال شائك مؤرق؛ من أكون؟ وأين أجد نفسى؟ يخجل الشخص منا أن يطرح أسئلة كهذه حتى في خلوته مع نفسه، يخشى أن يعلن بهذا الوضوح عن تيهه، كيف يتيه وسط عالم لا يسمح له بذلك رغم فوضاه؟ كيف يقبل هشاشته بهذه البساطة، بقابلية صلابة قلبه للتحطيم أمام ثورة عقل لا أمل في خمودها؟ ولأن الأجوبة القريبة من الحق لا بد لها أن تكون بسيطة؛ تراءى لي اليوم إدراك بسيط وساذج في الأفق، قريب وصادق جدا؛ كأنه حقيقة بديهية واضحة وشفافة؛ لم يحجبها عني سوى الغرور الفارغ والسعي البئيس نحو السراب لأجل السراب نفسه. سمعت صوتا يهمس في قلبي في اليوم ألف مرة، الصوت نفسه الذي يخبرك بالأشياء المهمة جدا، والإدراكات المفاجئة التي توقظك من سباتك في لحظات الصفاء وتجلي بصيرتك، ليخبرك أيضا، كما تفعل كل ذرة في كيانك، اترك نفسك تجدها، اتركها ولا تجالسها، لا تجعلها مركز عالمك، اترك نفسك ولا تته في التفكير في مشاغلها، انس وجودك تماما كأنك قطرة ماء في المحيط، جزء من كُلّ كبير وشاسع.

لم يكن أبدا من الصحيح أن يعيش المرء عمره وذهنه لا يشغله سواه، والقلق الذي يعاني منه أغلب البشر، ذاك الذي يغمر الكيان ويخنق الشعور في الليالي المظلمة، إنه نداء داخلي يدعونا لتغيير اتجاه رؤيتنا، لأن بوصلة الروح لا تكذب، وصوت الفطرة فينا غير قابل للتجاهل.

إن أكثر الناس إثارة للبهجة والراحة هم أولئك الذين لا يكترثون لصورتهم الشخصية، ولا يهمهم أن يكونوا الأفضل أو أن يصلوا للأفضل، إن أكثر الناس مبعثا لفرحة الروح البسيطة ليسوا المشاهير الذي يعيشون ليكونوا شيئا ما، أو بعض الكتاب والفنانين وشيوخ الدين الذين تستشعر مما يكتبون ويقولون ويفعلون أنهم لا يرجون من عملهم شيئا أكبر من ألقابهم، أو بعض الخطباء الذين سمتهم الجماهير ملهمين رغم أنهم في الواقع مثيرون للقنوط والنفور، وباحثون يائسون فارغون بعظمة فارغة. هؤلاء وإن اختلفت صورهم ينحصرون جميعا في نفس الركن الضيق من ذواتهم، مستمرين في دورانهم البئيس حول فلكهم الخاص.

إن المريحين حقا هم الذين أذابوا وجودهم تماما في عوالم غيرهم، الذين وجدوا الشفاء والمعنى في شفاء الٱخرين وصارت رؤيتهم للأشياء في تمام الوضوح عندما اهتموا بتفاصيل من هم في حاجة إليهم، وبأن يكون لهم الأثر الصادق في صنع من هم عليه، أولئك هم الذين يطبخون طعاما شهيا لعائلتهم، يقرؤون قصصا دافئة لصغارهم، يوقظون في خيالهم السحر وحب الحياة، الذين ينظمون الاحتفالات البسيطة عند نجاح أحدهم، ويدعون أبناء الجيران للأحاديث المؤنسة، الذين ينشرون الابتسامات المجانية وعبارات التهاني كلما سنحت لهم الفرصة لذلك؛ الذين يجدون منتهى السعادة في سعادة المحيطن بهم، الذين يخلصون في أداء عملهم، فنانون يتركون قطعا منهم في نصوص يكتبونها، أو ألحان يؤلفونها، أو لوحات يرسمونها دون أن يبحثوا بفنهم هذا عن التصفيق والإطراء، هم أيضا أولئك الذين يخططون لمستقبل مشترك، لغاية أعظم منهم، يعلمون من علمهم، ويمسكون بالأيادي للارتقاء بها، ولا يرجون من ذلك سوى أن تتحسن حياة بهم، وأن يزرعوا فيها بهجة، وأن ينيروا روحا اتصلت بهم.

أن ينسى الإنسان نفسه لأجل شغفه، فيصبح طاقة حب متدفقة، يتعلم لأجل المعرفة نفسها ويعمل لأجل قداسة عمله، ويعطي دون أن يمن بعطائه، ويرضى بما أعطاه وبما أخذه. صادفت الكثير منهم، تركوا أنفسهم منشغلين بأيامهم، متوارين عن الأنظار، أحياء وأحرارا من شيء كان يكبلني وأجهله، رأيت تلك الشعلة التي تهت عنها في ظل أفكار متقدة في عيونهم، في ربات البيوت، مع الٱباء الكادحين، والأطباء والممرضين الذين نسوا صخب العالم في هدوء ممرات المستشفى وتوارت ظلمة حيرتهم خلف بياض وزرتهم، في الأساتذة الذين زرعوا بذور إيمان صادق في صفاء ذهن تلاميذهم، في الشباب المدافعين بصدق عن قضاياهم، يضخون أملهم دفعة واحدة في أحلامهم ويجددونها كل صباح.

بمجرد أن يتسرب إليك هذا السحر تصبح إنسانا جديدا، بطاقة متجددة، يعيش بانسيابية وتناغم مع حياته.
إن الأمر ليس صعبا جدا كما يبدو، أن نترك أنفسنا، أن نخبئها ككنز ثمين نزوره في المساءات الهادئة ونتأمله في مرٱة ما، نكتب تخليدا لتقلب أحوالنا، في اعتنائنا بذواتنا، واهتمامنا بمظهرنا، في طقوسنا اليومية الروتينية التي تشبهنا، في الكتب التي نقرؤها والأفلام التي نعيش بين أحداثها.

إن انغماسنا في أهداف ينتفع بها العالم من خلالنا، دون أن يكون الوصول هاجسنا الأكبر يجعل وجودنا حقيقيا، وأفكارنا سلسة قوية متماسكة، يجعلنا ننضج ونكبر، تسكن قلوبنا بهذه الحركة المستمرة نحو الخارج، وتتسع أرواحنا بارتباطنا بالجميل والساحر في الٱخرين، واهتمامنا بضعفهم، والاستماع لشكواهم، وتشجيعهم والإمساك بيدهم. أن نحرر طاقتنا الخلاقة، ونصنع أشياء تصبح بصمتنا في هذا العالم، هذا وحده القادر على أن يربطنا برحمة الله ورضاه وروحه التي تسري فينا دوما وأبدا.

1xbet casino siteleri bahis siteleri