كرة القدم: كيف تحرك عواطف الجماهير؟

966

بادئ ذي بدء وقبل الخوض في غمار الحديث عن كرة القدم بوصفها دينا جديداً، يكون من واجبنا أولاً توضيح بعض الأفكار حول الموضوع حتى ينجلي للقارئ الكريم أن الغرض الجوهري لتفكيك الوعي الجمعي للمجتمع والمجتمع العربي على وجه التحديد يكمن أساسًا في استبطان نفسية الجماهير وكشف عواطفها كما يكمن أيضا في أهمية قراءة وضعها الاقتصادي ضمن سياق التنظيمات الجماهيرية المرتبطة بعالم المباريات والملاعب المحتشدة بالمشجعين من الجماهير.

من هذه الأفكار أن عبد ربه كاتب هذا المرقون لا يبيت نية سيئة إزاء هذه الصنعة إيمانا مني بأنها نوع من الرياضات المفيدة للجسم بل وحتى الذهن مع استحضار آثارها الطيبة على النفس والفكر، وإذا كانت كرة القدم جزءا لا يتجزأ من بنية الألعاب الرياضية فإن الجماهير المشجعة هي الأخرى مكون أساسي داخل التركيبة الرياضية، ذلك أن الإنسان بطبعه يميل إلى الاختلاف وهو بذلك يمكنه أن يعتنق مذاهب قد لا تتفق مع بيئته الثقافية والعقائدية فقط لأنه يحب أن يجعل نفسه موضوعا للآخر، أي ذلك الكائن الذي يتحدد وجودي من خلاله. على هذا الأساس وُجدت فرق كرة القدم وجعلت لها رموزا خاصة تميز الفرق الرياضية من خلال فرض زي موحد يطبع نادي هذا الفريق ويميزه عن أي فريق آخر مع وجود ترتيب عددي يحدد اللاعبين.

 لا تبقى هذه العلاقة الضدية محصورة داخل دائرة الوطن بل إنها تتجاوز حدود الدولة من خلال تنافس فرق من دول مختلفة، الشيء الذي يحرك عواطف الجماهير ويجعلها تتفاعل وتشجع فريقها الوطني. هذه التفاعلات تحيي مشاعر الأخوة وتنعش الذاكرة العاطفية للجماهير بأنها قطعة من جسد واحد بحيث تذوب الخلافات وتمحيها، لا أقول إن مشاعر الكره تختفي إلى الأبد ولكن تبقى هنالك حالات معزولة تجد راحتها في سلوك الاتجاه المعاكس ويتم التعبير عن ذلك بعدة أساليب أذكر منها ما يرتبط بموضوع حديثنا وهي حالة الشخص الذي يشجع الفريق المنافس لفريقه الوطني هذا الفعل يعبر عن المشاعر الدفينة لهذا الشخص بشأن مواقفه السياسية إزاء دولته فيكون قد أبرز من خلال موقفه الصغير من فريقه الوطني عن موقفه الكبير من قضايا تهم النظام السياسي لدولته. 

وأمام تطور الدولة ووسائل تأثيرها أصبحت كرة القدم تشكل أداة جديدة ضمن وسائل التأثير التي تعتمدها الدولة في التغطية على القضايا المهمة للمجتمع من خلال آليات تمويهية تهدف إلى غمر إدراك الأفراد، ولقد باتت معظم القنوات التلفزيونية للدول تغطي على مشاكل المجتمع بحيث أصبحت تنقل المباريات بشكل لم تعد تملك معه القنوات التلفزية الوطنية طابعها الإخباري والتفاعلي كما هو معهود بل تحولت جزئيا إلى قنوات رياضية تبث المباريات والألعاب الأولمبية.

ولقد لاحظنا في الآونة الأخيرة كيف تزايد عدد المباريات وهذا الدفع المطنب يجعلنا نقرأ الارتفاع المتزايد لعدد المباريات من زاوية أنه يعمد إلى عدم السماح للجماهير بأخذ استراحة للتفكير في قضاياه الفردية والاجتماعية. وبذلك فتعزيز المباريات بطابع الوطنية وتغيير اللاعبين ونقلهم إلى نوادي جديدة ترمز إلى شيء واحد هو تقوية الارتباط بالمباريات لتصبح كرة القدم في آخر المطاف إلها جديداً يبشر بديانة جديدة تؤدى فرائضها في المقاهي والملاعب الكبرى وأما الفوز العظيم فيتمثل في الأداء الجيد للفريق ومن ثم تسجيله الأهداف وتفوقه على الخصم.

والملاحظ اليوم أن المجتمعات الأكثر تشجيعا للمباريات والأقوى اهتماما بكرة القدم هي المجتمعات التي لا تملك مصيرها بنفسها وتعاني فراغ الكيان الذاتي بسبب أنها لا تحمل قضية تملأ وجودها وبالتالي تسقط عنها كل السمات المميزة لمجتمع إنساني متحضر بالمعنى الحقيقي للكلمة.

إن هذه الجماهير الغافلة التي تستطيع أن تجلس لساعات طويلة في المقهى لكي تشاهد مباراة رياضية أو لتتحدث في أعراض الآخرين وترفض أن تناقش قضية من القضايا المرتبطة بوجودها وبمصيرها لا يمكنها أن تخرج للشارع وتدافع عن حقوقها المشروعة ولو حدث وخرجت تطالب بهذه الحقوق أو تلك لم تحقق شيئا لأنها ستعود إلى مقراتها لتكمل سباتها اعتقادا منها بأنها قامت بأشياء كثيرة تستدعي الراحة وهي لم تفعل شيئا أكثر من أنها صرخت وعربدت ورغت وقالت كلاماً فوثقت كل ذلك لتشاركه مع جمهور الغافلين الآخرين على منصات التواصل الاجتماعي لا لكي تخبرهم بوجود قضية تستدعي دفاعهم عنها بل لتخبرهم بأن الأرباح التي يجنيها المحتجون تكمن في تلك الصور التي إن وزنت لم يتحرك كف الميزان لخفته.