مريستان سيدي فرج: أيقونة الحضارة الإسلامية الطبية التي انقلبت قيسارية!

1٬377

كثيرا ما تجمعنا جلسات نقارن فيها حضارتنا بالحضارة الغربية ونتحسر على قدرنا الذي شاء أن نولد في هذا الوطن، ربما لجهلنا بتاريخه وبحضارته أو لجهلنا بتاريخ الغرب وما كانوا عليه. ومن أهم وأعظم المعالم التي يجب أن نعرفها ونعتز بها كطلبة طب خاصة وكمغاربة عامة: مريستان سيدي فرج. لا شك أن أسئلة كثيرة تتبادر إلى الأذهان بهذا الشأن، أي مريستان هذا؟ وأين تكمن عظمته، وما الداعي إلى الاعتزاز به؟

بدءا بتعريف هذا المريستان، فهو عبارة عن هيئة طبية تشمل العديد من التخصصات الطبية على رأسها: الطب الباطني، طب العظام، طب العيون والطب النفسي، الذي سيكون لنا حديث مطول عنه خلال مقالنا هذا؛ حيث أسس في عهد المرينيين خلال القرن الثالث عشر وبالضبط سنة 1286، من طرف السلطان أبو يوسف يعقوب، إذ يعكس رغبة السلاطين آنذاك في تطوير العلوم وبناء الحضارة على أسس متينة. وقد اتخذ هذا المريستان مدينة فاس مقرا له، فتم تأسيسه بين سوقي العطارين والحناء قرب ضريح المولى إدريس الأول. ووردت فرضيات عديدة بخصوص تسمية المريستان، فجاء في كتاب سلوة الأنفاس للدكتور الفريسي، أنه سمي كذلك لما يوفره للمرضى من سبل الفرج وأساليب الراحة الجسمية والنفسية. كما قيل في مقال للدكتور عبد الفتاح شكيب أنه سمي بسيدي فرج لوجود باب بين السوقين السابق ذكرهما، يسمى بباب فرج، وقد انقلب الاسم إلى سيدي فرج لإيمان العديد من المغاربة آنذاك وإلى يومنا هذا بتوفر الشفاء في الأضرحة وبين أيدي السادة. كما ورد في كتب أخرى أنه سمي كذلك لكون أحد أهم وأكبر الأطباء الذين أشرفوا عليه يسمى بفرج الخزرجي.

قد يبدو لكم من خلال تعريفه، أنه مجرد مستشفى لم يعد يرقى إلى مستوى المستشفيات الأمريكية والأوروبية اليوم، أو قد يقول بعضكم إنه عمل جيد لقلة المستشفيات والهيئات الطبية خلال القرن الثالث عشر لكنه لا يستدعي كل هذا التعظيم… دعوني أخبركم ببقية التفاصيل، لعلها تفي بالغرض وتطلعكم على عظمة هذا المريستان. إن مريستان سيدي فرج لم يكن مجرد مستشفى يهتم بعلاج المرضى من البشر فقط، بل اهتم بالحيوانات أيضا على رأسها طائر اللقلاق الذي وفرت له حديقة خاصة، وعينت هيئة من الموظفين بالمريستان لإطعامه وأخرى لعلاجه، ويفسر الاهتمام بهذا الطائر بفرضيتين، الأولى تصرح بكونه اتخذ كوسيلة للطب التجريبي ولتعليم وتكوين طلبة الطب آنذاك؛ فكانوا يمارسون عليه مختلف التقنيات التمريضية على رأسها جبر الكسور. والثانية مصدرها حكايات شعبية غير موثوقة تقول، بأن طائرا لقلاقا يحمل في منقاره قطعة ذهب قد أحط فوق ضريح المولى إدريس، وبعدما بيعت تلك القطعة الذهبية شيد مريستان سيدي فرج بثمنها. وبذلك تم إقرار الاهتمام باللقلاق وعلاجه كامتنان له.

قد تختلف الفرضيتان وقد لا تكاد إحداهما تكون صحيحة، لكن الفعل الأساس، أي علاج اللقلاق ومختلف الحيوانات، إن دل على شيء فإنما يدل على اهتمام الحضارة الإسلامية المغربية بالحيوان منذ زمن بعيد، قبل النضالات الغربية المنادية بحقوق الحيوان. وقد عاش المريستان كغيره من المعالم تحولات عديدة وتغيرات منها ما طبع التاريخ فجعلنا فخورين، ومنها ما أدمى قلوبنا فجعلنا في حسرة من أمرنا.

أما مراحل الفخر فتجلت أساسا في قدوم فرج الخزرجي، الطبيب الأندلسي الذي قاد المريستان في أوج ازدهاره، وقد خطرت لهذا الطبيب فكرة غيرت توجه المريستان وغيرت معه توجه علم النفس بأسره. فقد كان المرض النفسي أو ما يسمى بالجنون في نظر الجميع مرضا لا شفاء منه ولا علاج له، يجب سجن المصابين به إلى أن تتوفاهم المنية، إلى أن اقترح خزرج استدعاء فرقة من عازفي الموسيقى الأندلسية من أجل المرضى العقليين، الشيء الذي أظهر تحسنا في تصرفهم؛ فكان بذلك مريستان سيدي فرج أول مستشفى يعالج المرضى النفسيين بالموسيقى مما جعل العديد من الأجانب يتهافتون عليه للاستفادة من هذه التجربة السباقة والمتميزة فتحول لشبه مدرسة لتعليم أسس علاج الأمراض النفسية بالموسيقى. حتى أن جيلبرتو جابري قد اتخذه نموذجا لبناء أول مستشفى للأمراض النفسية بفالينسيا بل وبالعالم الغربي. أوليس هذا كافيا لنعتز بحضارتنا وبما يرمز إليه هذا المريستان من عظمة؟

لكن، وكما سبق أن ذكرت، فقد عرف هذا المريستان تغيرات رفعت من قدره وأخرى أحطت منه حتى كاد يصبح نسيا منسيا. فمع بداية القرن الخامس عشر عرفت الدولة المرينية فترة من الانحطاط والجمود مع المولى أبي سعيد عثمان الذي رَهَنَ أحباس المريستان لتجهيز الجيش، فتدهورت حالة هذا المستشفى ليتراجع رويدا رويدا، وتتراجع معه حالة المرضى، وازدادت حالة المريستان سوءا مع بداية الحكم الاستعماري ليتحول إلى سجن بدلا من مكان للفرج والراحة ثم لقي حتفه سنة 1944.

ومن المؤسف أن محاولات الإصلاح التي جاءت لاحقا سنة 1951 لم تسعَ لإحياء هذه المعلمة وهذا التراث الطبي الأصيل، بل عوضته بمستشفيات أخرى وحلت محله قيسارية لبيع الملابس والأواني، وانضاف هذا الفعل المخزي في حق مريستان سيدي فرج إلى رصيد الفرنسيين من محاولات لدفن حضارتنا وإقبار عظمتها.

لكن، لا يجدر بي لوم المستعمر فحسب لأنه لم يسعَ لترميم حضارة لا تمثله ولا تمت إليه بصلة، بل يجدر لوم المرينيين أيضا لتخليهم عن جزء من إنجازاتهم في سبيل الحرب التي كعادتها تلقي بالدمار على طرفي المعركة المنتصر والمنهزم. وما اللوم والحسرة سوى هدر للوقت والطاقة، بل الأصح التذكير بهذا التاريخ اقتداء به وإحياء للمجد!