المعاناة الإنسانية بين اليوم والغد

ولد كل إنسان مع مأساة ينبغي أن يعيشها، أن يتحمل عواقبها وأن تطبع قلبه مخلفاتها من أحزان وجروح. كل منا مثقل كغيمة تنتظر موسم المطر لتفرغ ما بداخلها؛ نحمل الكثير بدواخلنا، نحمل ما نطيقه ولا نطيقه، ما يظهر في تصرفاتنا وحركاتنا وأحيانا في أعيننا، وما نخفيه ولا نطلع أحدا عليه حتى نكاد ننكره على ذواتنا إذا ما نظرنا إلى المرآة.

منا من يخفي المأساة جملة، ومنا من يظهرها ويبالغ في ذلك، ومنا من لا يعترف بها ويحاول أن يعيش وهم الهناء في أبهى حلله. لا يهم كيف نتعامل مع هذه المأساة ولا يهم المصدر الذي خلقت منه مأساتنا؛ أهو حب أخرق أوقعنا في غيابات الجب ولم تمض قافلة العزيز بعد، أم أنه أمل صعب النيل به والتقدم نحوه، أم هو إحساس بالغربة. لكل مأساته ولكل طريقته في عيشها والتعايش معها، ولعل ما يهمنا ككائنات اجتماعية هو أن نحترم مأساة الآخر ولا نفاقمها بأنانية وحقد لا يكاد أحدهما يفسر الآخر لأننا في النهاية نملك مأساة مشتركة: مأساة كوننا بشرا.

إن كوننا بشرا هو السر وراء المأساة والمعاناة اللتان تطبعان وجودنا الإنساني، أليس كوننا بشرا ما جعل إبليس يأبى السجود لأبينا؟ ولو لم يغتر لما تكبد معاناة إخراجنا من الجنة. أليس كوننا بشرا ما يجعلنا بقلب ساذج يحب بصدق وعقل ماكر، يقيد سلوكيات قلبنا فنعيش في صراع مع أنفسنا؟ أليس كوننا بشرا ما جعل قابيل يطرح أخاه قتيلا وهو لا يعرف حتى كيف يواري سوءته، وهو ما يجعلنا كل يوم نقتتل من أجل لا شيء، فقط لنسقي عطش جشعنا ونشبع جوع غرورنا. أليس كوننا بشرا ما يجعلنا طموحين حتى الجنون؟ فيتحول حلمنا كابوسا يخيف البشرية جمعاء، إذ يتحول طموحنا في أن نصبح سياسيين إلى رغبة جامحة في أن نصبح آلهة ونحكم الجميع، وما نلبث أن نصبح قتلة بدم بارد فقط لإشباع غرورنا، ويغدو طموحنا في أن نصبح علماء إلى طموح في إدهاش العالم بذكائنا حد الصدمة فنخترع ما يضر من أدوات الحرب ولوازم الدمار. أليس كوننا بشرا ما يجعل الحب عندنا مقرونا بالفراق، بدلا من أن يكون كحب الطيور راقيا لا تشمله الأرض فيتجلى في السماء في حلة سراب كل طائر فيه يرسل باقات من الحب!

أتذكر قولة للفيلسوف غاستون برجي: “هكذا هو الإنسان، سجين في آلامه، ومنعزل في لذاته، ووحيد في موته، محكوم عليه بأن لا يشبع أبدا رغبته في التواصل.” تقع هذه الكلمات على مسامعي كغاز مسيل للدموع فأبكي بكل ما في دواخلي من أطراف وأعضاء وخلايا؛ لأنني ألمس قولته تلك وأراها كل يوم: في التلفاز على نشرة أخبار الظهيرة التي لا تكاد تكون تواصلا فعالا بقدر ما هي تمويه بما نرغب سماعه وخداعا مورس علينا طويلا حتى صرنا نمارسه على ذواتنا كطقس يومي، وألمس قولته أيضا في أحاديث النساء وتجمعات الرجال ولعب الأطفال؛ فالنساء يتحدثن بغية إسماع صوت لا تناسق فيه ولا رسالة، فقط كلمات مفادها أنني الأفضل والأرقى والأكثر حظا، وتجمعات الرجال ما عادت عن السياسة وكرة القدم بقدر ما صارت عن قصة الشعر والبذلة الجديدة وعدد الصديقات والمعجبات وكم مرة خيب ظنهن وأسيل دمعهن؛ ولعب الأطفال الذي ما عاد يحمل من براءة وما عادت تطبعه الطفولة فلم يعد بارزا متجليا في الواقع بل صار متخفيا خلف الشاشات، فتجد طفلا يحكي لصديقه، إن وجد حوار، عن عدد القتلى الذين أسقطهم في اللعبة الفلانية وعدد الألماسات المكسوبة في اللعبة الأخرى.

كأنما العالم توقف لحظة يخطط لإصدار تحديثات جديدة وتعديلات تعطي لمعاناتنا شكلا حديثا؛ فنسمع مستقبلا عن صفات الإنسان المدمر، القاتل بدلا من الكائن العاقل ذي الحرية والكرامة؛ لأن الكرامة لن تعود خصلة يتحلى بها الإنسان بل أرقاما في بنوك المال وسجل الوفيات وقصصا في خانة الذكريات، فلا نطمح في غد أفضل ما دمنا نزرع بذور الدمار في أرض تربتها المعاناة.

1xbet casino siteleri bahis siteleri