رحلة بين سطور رواية Il était une fois un vieux couple heureux لمحمد خير الدين

4٬153

السفر هو انتقال من مكان لآخر وربما من زمان لآخر وإن ادعى البعض استحالة الصنف الآخر. لا زلت أتساءل عن سبب الاستحالة، لماذا لا يمكننا السفر عبر الزمن؟ ولماذا نقتصر في تعريفنا للسفر على كونه انتقال جسدي من مكان لآخر؟ أليس الأصح أن ننظر إليه بشمولية أكبر ونعترف بأشكاله جميعها. لم لا ونحن، معشر القراء، جبنا العالم طولا وعرضا، بل وخرجنا في نزهات عديدة نحو الماضي والحاضر وحتى المستقبل.

وها قد جئت اليوم لأتقاسم معكم رحلتي في جبال الأطلس خلال فترة الحماية وما بعد الاستقلال بسنوات قليلة؛ سافرت على متن رواية فرنسية للكاتب المغربي محمد خير الدين بعنوان “Il était une fois un vieux couple heureux”-“كان يا ما كان زوج عجوز وسعيد”.

جلست في زاوية غرفتي بعد أن حزمت أمتعتي: كوب قهوة، أغنية أمازيغية للرايس الحسين المراكشي وكتابي بين يدي. فتحت الكتاب فإذا بي وسط مجموعة من المنازل الطينية، تتوزع بين الجبال وتحيط بها أشجار الأركان وزيت الزيتون. في مكان قريب معزول عن المنازل لمحت المدرسة، ثم شيئا فشيئا سمعت صوت الطلبة يتلون القرآن على الطريقة المغربية. وبينما أمشي وجدت تلة صغيرة يعتليها منزل هادئ، خطوة تلو الأخرى وها أنا في منزل سي بوشعيب، قطه الأسود ينظر لي بغرابة، الحمار والعنزتان في الزريبة لا يكادان يكترثان لوجودي. وها هو سي بو شعيب يحمل سيجارته بيد فيما تحمل اليد الأخرى قطعة قصب يستخدمها للكتابة، وأمامه طاولة طعام تتوسطها صينية الشاي بالنعناع وصحن تملؤه الفواكه الجافة.

جلست للحظة أتأملهما في هدوء، أستمع لحوارهما الفلسفي القيم، السيد بوشعيب فيلسوف زمانه يناقش ما طرأ على الحياة من تغيير، يتوقف عند زمن السيبة ما قبل الحماية ثم يتحدث عن هذه الأخيرة، اجتياحها للوطن، مطاردتها للوطنيين وجلبها للأوبئة. لا تقتصر الأوبئة بالنسبة لسي بوشعيب على الأمراض التي تنهش الجسم فحسب، بل حتى تلك التي تنقض على المجتمع فتودي بحياة أخلاقياته ومبادئه.

نضج الغذاء واجتاحت رائحته المكان بأكمله، طاجين المعزي يبدو لذيذا جدا، الخضار الطازجة فوقه مذاقها رائع أيضا والخبز الذي طبخته العجوز في الفرن التقليدي فوق الخشب يذوب في فمي قبل أن أشرع في مضغه. بعد هذه الوجبة، من الرائع أخذ قيلولة برعاية حفيف الشجر وطنين الذباب والنسيم العليل الذي يدخل من النافذة المطلة على القرية، من حين لآخر تأتي مأمأة الخرفان وخوار الأبقار ليضفي على اللحن لمسة رائعة.

مر اليوم الأول ثم الثاني ولا زلت أكتشف أهل القرية: الحكيمة لالة تيزة جارة العجوزين، أمام المسجد والمقدم الذي تضحكني مواقفه وتصرفاته. وجبة اليوم طبق كسكس باللفت مرفوقا بكوب لبن طازج، العجوز تبدع أمام أوانيها الخزفية. سي بوشعيب يتابع الكتابة والقط يترنح بحركات طريفة وجذابة. يكسر سي بوشعيب الصمت ويحكي لزوجته عن يومه بالسوق الأسبوعي. كيف مرت رحلته فوق حماره وما وجده في السوق من بضائع، المقايضة وأساليب البيع والشراء التقليدية.

طالت رحلتي ومرت سنوات على سفري إلى القرية لا أتذكر منها إلا ما رواه الكاتب واستقل المغرب عن فرنسا شكليا، لكن الاستعمار الحقيقي بدأ. اكتسحت التكنولوجيا أهل القرية فاستبدلوا الشموع بمصابيح عصرية، والأواني الخزفية بأواني من فضة ولم تعد الفتيات يجتمعن لطحن القمح بل خصصت طاحونة عصرية لذلك. عاد المهاجرون وعلت منازلهم لتخفي المنازل الطينية الصغيرة، وعبدت الطرق فلم يعد الحمار يحظى برحلته الأسبوعية. كما هجر السوق لأن الدكان الذي يوجد في القرية يحتوي على أكثر مما اعتاد السكان على اقتنائه. شباب القرية تغيروا بشكل جذري وما عادوا يستمتعون بأيام الحصاد بقدر ما يحلمون بأوروبا وبالغنى المترف الذي ينتظرهم هناك فيما لا تنتظرهم سوى المآسي واللاهوية والتشرد. أما أبناء المهاجرين فلا يمتون للقرية وأهلها بصلة بل بينهم وبين الأجيال التي سبقتهم هوة سحيقة.

نشر سي بوشعيب أولى قصائده وحصل على مذياع ليحل محل سمفونية الطبيعة التي تعزفها الأشجار والطيور والحشرات وتلحنها حركة الرياح. العجوز اقتنعت بإرسال غلتها إلى الطاحونة وبدأت تميل إلى الأواني الفضية وإلى قنينات الغاز بدلا من الخشب الطبيعي. صار الهواء ملوثا بعض الشيء، وأصبح ضوء القمر أقل توهجا أمام المصابيح. تغييرات كثيرة قد طرأت لكن جبال الأطلس لا زالت رغم ذلك وجهة رائعة للاستجمام والسفر.

حزمت أمتعتي للعودة إلى بيتي وإلى زمن الجائحة هذا، لكن حقيبتي كانت أثقل هذه المرة، نعم أثقلتها الذكريات التي لم أعشها فعليا لكنني رسمتها بمخيلتي، وأثقلتها حكم سي بو شعيب، مناقشته لمختلف الظواهر بدءا من نظرة المجتمع إلى المرأة، مرورا بتاريخ جزء من تراب وطني ووصولا إلى آثار الحداثة على مجتمعي. أغلقت الكتاب وها أنا الآن أكتب إليكم بابتسامة مسافر سعيد برحلته. حقا إن السفر عبر الزمان والمكان ممكن، أقل تكلفة وأكثر إمتاعا. كانت هذه رحلتي، فكيف مرت رحلاتكم وما كانت وجهاتكم يا ترى؟