ضحايا خيبات الأمل

1٬127

لطالما تساءلت من خلال علاقتي مع الآخرين، عن شيءٍ كان وما زال يشغل حيزاً كبيرا من تفكيري. تساؤلي مفاده: هل حقا في طبيعة علاقتنا مع الآخرين نكون ضحايا خيبات الأمل؟ ولم لا يكون الآخرين أيضا ضحايانا نحن؟ كيف لنا أن نقر إذا ما كنا مخطئين أم على صواب؟ ولماذا يصر الأغلبية على كونهم ضحايا، بينما لا يقرون بجزء ولو ضئيل من كونهم مخطئين، أو يعترفوا اعترافا صريحا كونهم يتحملون مسؤولية ما جرى؟

إن نظام العلاقات تحكمه قواعد وقوانين، وهذه القواعد أشبه ما تكون بحلقة متصل بعضها ببعض، إذا ما فقدت فردا منها، تداعى لها الباقي بالتلف والضياع، فتصبح بذلك ناقصة مبعثرة. في الكثير من الأحيان نتصادف مع أشخاص لا نعرفهم، فيبدأ مسلسل التعارف، ومشاركة أطراف الحديث، والنقاشات، ثم أدق التفاصيل اليومية، ثم يصبحوا بعدها جزءا من عالمنا الخاص، نهبهم قبسا من الوقت عربون صداقة، ثم نهديهم حيزا في القلب عربون محبة، ويوما بعد يوم تتلاشى الصورة المثالية الأولية، وتتبدد الهالة السطحية لتكشف عن مكنونات عميقة لم نكن نعرفها سابقا، تتجمع خيوط المواقفِ لتشكل قطعةً غزِلت من حريرِ التجاوز، ولؤلؤِ التغاضي، فتسر بذلك الناظرين، وتجذب إليها العابرين، بينما تظل لغزاً يجهله الحاضرين، إلى أن تغدو رماداً بعثره الآفلون.

تتفتح الزهرة صباحاً للنور، حين تدغدغها أشعة الشمسِ المضيئة، بينما تنضوي على نفسها مساء، وتنزوي أوراقها إلى بعضها البعض مشكلة حصناً منيعا ضد خيوط الظلام، كي لا تتسلل إليها فتنسيها فرحة النهار. إن قلب الزهرة لا يتفتح إلا لمن يهبها السرور، ويهديها قبساً من نور، يبهج رحيقها فتنثر العطور، ولا تنحني إلا تحية عبور. ولنا في الزهرة أسوة حسنة، نقتدي بحكمتها الإلهية، ونتبع طبيعتها التي جبلت عليها من الخالق المنان. نهب كلنا لمن يضيئ عتمة أرواحنا، ونبذل من أجله ما يعود علينا بالتوهجِ والبهجة، نكون نِدا لفضله وعطائه، ومثالاً كريماً لا يبخل في حضرة كرمه، ولا يولي مدبراً عن اهتمامه. فكما العين بالعيِنِ، كذا الحب بالحب، وكما السن بالسن، فكذا البذل بالبذلِ. وإن كان البادئ بالظلمِ أظلمْ، فكذا البادئ بالحب أحب، والبادئ بالفضلِ أفضل، ومن طوقنا بالاهتمام، نهبه أضعاف ما أعطى. من قال إن الاهتمام لا يطلب، بل إنه مطلب يطلب؛ فهو المصباح الذي به تستمر العلاقات، ومن قال إن القريب لا يحتاج منا لاعتذار؛ بل إنه من اللباقة أن نعتذر لذاك القريب الذي يشد عضدنا، ويتقبل مزاجيتنا، ونتكئ عليه في ضعفنا، ويضيء سوادنا بالإنصات والإرشاد، قبل أن نلقيه على الغريب أو البعيد.

إن الخطأ هو رمز طبيعي في الإنسان يثبت آدميته، وإلا لكان بذلك ملاكاً معصوماً من الزلات والهفوات. الخطأ هو خطوة للتعلم، هو سبيل للنجاح، هو بداية لا تعقبها نهاية، فمهما طال عمر الإنسان، وتطورت تجاربه، وازدادت خبرته، إلا ويظل آيلاً معرضا للخطأ في أي لحظة. علاقتنا بالآخرين قد تنتهي بخطأ، وقد تبدأ كذلك بخطأ، بينما الصواب هو ألا ننسى الفضل بيننا، فإن كنا عبرنا النهر بسلام، فهذا لا يعني أننا وصلنا للنهاية، فالطريق ما زال مستمرا طويلاً، والعكاز الذي توكأنا عليه الآن قد يهترئ ونضطر للبحث عن آخر صلب، بينما هذا لا يخول لنا أن ننسى فضل الأول الذي في سبيل وصولنا لليابسة، بذل من صلابته وقوته ليعيننا، واللبيب هنا بالإشارة يفهم ويعتبر.

نعود لمسألة الضحية وخيبات الأمل، أحيانا نضطر لوضع نقطة النهاية بدل الاستمرار في وضع الفواصل، فالنص مهما طال، لا بد أن تقبل نهايته لتعلن عن كماله وتمامه. لكل شيء وزن ومقياس، ولكل دخانٍ لا بد من نار، لا شيء يحدث بغتة، بل لكل شيء مقدار. نظام العلاقات محكوم بعدة قيود، وقد يأتي التخفيف على شكل تجاوز أو غض الطرف من أجل الاستمرار، بينما في بعض الأحيان لا يكون التجاوز عن الأخطاء إلا مخدرات تتعاطاها ذواتنا فتنفصل بذلك عن منطق العقل والواقع. لا يوجد ضحية، بل يوجد شخص يبذل كله لمن يهبه جزءا من بعضه، ويوجد طرف يتنازل باستمرار من أجل أن يتم سير السفينة، بينما يوجد طرف لا يعرف التنازل إليه سبيلا، وهنا محل الخطأ الذي يجعلنا نعيش خيبات أملٍ صنعناها بأنفسنا لأنفسنا، ما يجعلنا نتقمص دور الضحية، ونعيشه بكل تفاصيله.

إن ثقافة التنازل لمن يرانا طرفاً ثانويا في حياته هو ظلم في حقنا، والاهتمام بمن لا يكترث لأمرنا هو خضوع نقحِم فيهِ أنفسنا، بينما الصفح عمن يدفعه غروره للانتقاص منا، والتقليل من قدرنا متى سنحت له الفرصة بذلك أشبه ما يكون باعتصار كرامتنا في دوامة الذل والخنوع. لكل مقامٍ مقال، ولكل علاقةٍ مآل، إما أن تكون ظِلالا، أو تهوي بنا في غيهبِ الضلال، فمن كان يوماً سهل المنال، قد يأتي عليه حين من الدهر فتتغير الأحوال، ولله في خلقه شؤون.

مجمل الحديث وختامه، كلنا قد نخطئ في شيء، ونصيب في أشياء، فإن سِرنا على نهج كون الآخر مخطئ وخطؤه يحتمل الصواب، بينما نحن على صواب وصوابنا يحتمل الخطأ. فربما قد تنخفض وطأة خيبات الأمل، وبذلك يتراجع عدد ضحاياها.

1xbet casino siteleri bahis siteleri