هل وضعنا الوباء أمام ضرورة تأسيس نموذج فكري جديد؟ حوار مع المحلل الاقتصادي والباحث السوسيولوجي د. رشيد عشعاشي

لا شك أن الجانب الأظهر، والأكثر تأثيرا، لجائحة كورونا، بعد الجانب البيولوجي الطبي، هو الجانب الاقتصادي، والمتمثل في التأثيرات السلبية الخطيرة على اقتصاديات العالم الناتجة عن الجائحة. فقد شهد العالم إغلاقا تاما لمدة ليست باليسيرة منذ شهر مارس من العام الماضي، توقفت معه الحياة في شرايين العديد من القطاعات الاقتصادية المهمة، وخاصة قطاع الخدمات الذي تضرر بشكل كبير للغاية، لاسيما الخدمات ذات الارتباط الوثيق بالسياحة والتنقل الجوي والبحري، مما خلف أزمة اقتصادية لم يشهد لها العالم مثيلا منذ عقود. ويتوقع الخبراء أن يبقى هذا الأثر السلبي على الاقتصاد العالمي لمدة زمنية لن تكون يسيرة.
ولمقاربة هذه الإشكالات الاقتصادية المرتبطة بجائحة كورونا، والبحث في الحلول والاستراتيجيات الممكنة، التي من شأنها أن تقلص من النتائج السلبية على الاقتصاد الوطني، حاورت الباحث والمحلل الاقتصادي والسوسيولوجي رشيد عشعاشي، الذي شاركني، وشارك متابعيّ على قناتي على الأنستغرام، مجموعة من الأفكار القيمة والثمينة بهذا الخصوص، وكذا بعض الاقتراحات والآراء التي يرى أن من المهم أن يتم التفكير فيها جديا على المستوى الرسمي، سواء فيما يخص السياسة النقدية ببلادنا، والتي يديرها حصراً بنك المغرب، أو فيما يخص طبيعة النظام السياسي والعلاقة بين السلط فيه. وهذه الأفكار بالأساس تخص الباحث وتعبر عنه؛ نتفق معه في أغلبها، وله بعض الآراء الأخرى التي قد نخالفه فيها، ولكنها تبقى آراء مبنية ومؤسسة وتستحق كل التقدير والاحترام، كما أن من شأنها أن تثير نقاشا بنّاء حول طبيعة الدولة التي نحتاجها، والمنظومة الفكرية والنماذج الاقتصادية التي تلائمنا.
وقد جاء الحوار معه على الشكل الآتي:
س: الدكتور بوبوح:
شاهدتُ هذا اليوم مداخلتكم في برنامج Interdit d’interdire، ولفت انتباهي بعضُ الأفكار التي عبرتم عنها في هذا اللقاء؛ حيث حاولتم أن تقدموا تفسيرا وجوابا عن سؤال: لماذا كان تعامل المغرب مع الأزمة القائمة مميزا؟ ولماذا سارت الأمور بسلاسة، عكس ما شاهدناه في بعض الدول التي تصنف على أنها دول متقدمة، ومع ذلك شهدت ارتباكا كبيرا وملحوظا فيما يخص تدبير هذه الجائحة؟
وقد أرجعتم أسباب هذا النجاح المبدئي في التعامل مع الجائحة في المغرب إلى طبيعة النظام السياسي، والذي لا تزال فيه قمة هرم السلطة محتفظة بالكثير من الصلاحيات، حيث تأتي الأوامر من المؤسسة الملكية بشكل مباشر، وهو ما يجعل اتخاذ الإجراءات والتدابير على مستوى كل الإدارات والقطاعات يعرف سلاسة ومرونة كبيرتين؛ كما ذكرتم أن هناك جانبا ثقافيا في الموضوع، إذ ما تزال ثقافة احترام الكبير سائدة عندنا، وبالتالي فمن الواجب حمايتهم من هذا المرض، كونهم مرشحين بشكل رئيس لأن يكونوا عرضة للمعاناة من مضاعفات الإصابة بهذا الفيروس، وربما يؤدي إلى موت الكثير منهم.
وأضفتم بأن واقعية المغرب في التعامل مع الأحداث، وعدم وجود أيديولوجيات متناحرة، أسهم في تقليص حدة المخاطر التي كان ممكنا أن يواجهها الشعب المغربي جراء هذه الأزمة، وظهر ذلك جليا في اعتماد بروتوكول الهيدروكسي كلوروكين بشكل مرن، مع أن الأمر بقي محل جدل واسع في فرنسا لمدة طويلة، وربما ينتهي وباء الكوفيد ولا ينتهي هذا الجدل عندهم.
كما بينتم أن هذه الواقعية تَظهر أيضا في تفهّم المواطنين للإجراءات الاحترازية المتخذة من قبل السلطات، حيث إن الناس تقبّلوا بسهولة أن يتم إغلاق المساجد والمقاهي وكافة الفضاءات العامة التي تعتبر ضرورية في ثقافة المغاربة وفي مبادئهم وقناعاتهم الدينية.
فهل معنى هذا أننا اكتشفنا أنفسنا في هذه الجائحة؟ أو عرفنا أننا ربما نكون أحسن من كثير من الأمم عندما تجدُّ الأمور وتطرأ الأزمات؟ وأن في مكوناتنا الثقافية أشياء كثيرة يمكن البناء عليها في المستقبل؟
ج: الدكتور عشعاشي:
في تلك المقابلة التي أشرتم إليها، كنت قد أثرتُ فكرة مفادها أن التأخر الذي نعرفه هو الذي أسهم في نجاعة الإجراءات التي اتخذناها أثناء التعامل مع جائحة كورونا. فنحن ما زلنا لم ننصهر في النموذج الفكري الليبرالي والنيوليبراني المهيمن حاليا؛ فتخلفنا بمعيار هذا النموذج هو الذي “أنقذنا” من كثير من المضاعفات التي عرفتها بعض الدول، وتمسكنا بهويتنا وثقافتنا هو ما أفادنا في تحقيق ما حققناه في هذه الجائحة. يمكن الرجوع إلى تفصيل هذه الفكرة في مداخلتي في TEDx حول “العلاقة بين الوعي الجماعي واللاوعي الجماعي”.
وما ينبغي أن نؤكد عليه هو أن الليبرالية في المغرب ليست نموذجا فكريا، بل هي خطاب سياسي، هدفه هو إخفاء أو تغليف حقيقة ليست ليبرالية، هي هويتنا والجانب الثقافي منها على وجه الخصوص، والذي لا يُعول على الفرد، وإنما على الجماعة والعائلة والشعب والأمة. والخطاب الليبرالي منبي على الفرد، وعلى الفردانية كرؤية فلسفية. والفردانية تنطق من فكرة الحرية، وهي فكرة حركية. والحرية في الفكر الليبرالي ليست بالحرية الجماعية، أو المشروع الذي يمكن أن تؤسس عليه الدول، ولكن حقيقة الحرية في الفكر الليبرالي أنها حركة تحررية، ليست لها نقطة نهاية تتوقف عندها؛ بحيث ينبغي أن نظل دائما نقاوم للتحرر من شيء ما، التحرر من الدين، من المنظومة القيمية الأخلاقية، من المرجعية الثقافية، من الحدود الجغرافية، من مفهوم الوطن، بل ومن مفهوم الدولة نفسه. وهذا كله يسير في اتجاه في ما يسمى بالعولمة والرأسمالية. فهذه الأخيرة تمقُت الحدود المغلقة، عوضا عن ذلك تدفع في اتجاه الحدود المفتوحة والمناطق الحرة والتبادل وغيرها من الإجراءات التي تخدم الرأسمالية. وما يهمها في نهاية المطاف هو أن يتحول العالم بسائر دوله إلى سوق عالمية واحدة، وأن تُنمط شعوب العالم وتتمحور حول ثقافة واحدة، وذلك لغاية التحكم في الإنتاج والأسعار بشكل مرن.
وحين نقول: إن ثقافتنا هي التي حمتنا من التأثر بالأزمة الحالية بشكل كبير، فينبغي أن نستحضر أن الثقافة من منظور رأسمالي هي عائق، لأن الشركات تضطر إلى العمل على ملاءمة منتوجها مع كل ثقافة على حدة، وهذا يعني زيادة التكاليف ونقصا في الأرباح، وأيضا بما أن الثقافات والديانات تعتبر المحرمات فيها مكونا رئيسيا، فتلك قيود اقتصادية بالنسبة للرأسمالية.
ومن هنا، فتفكيك المعتقدات وتفكيك القيم من غايات الرأسمالية. وبما أننا متخلفون، من منظور ليبرالي، ومحافظون على هويتنا، رغم ما اعتراها من التشويه والتحريف، ورغم أنها لم تعد السردية الأساسية التي توجه تفكيرنا، لكنها ما تزال كامنة في أعماقنا، رغم أننا نتنكر أحياناً في خطاب حداثي قد يبدو مناقضا لها. وحيث إنها ما زالت كامنة فإنها تبرز في أوقات الأزمات، ويتوارى الخطاب الذي لم يتحول إلى فكر جذري مترسخ.
وعلى سبيل المثال، يعتبر تجميع السلط (عكس فصل السلط) أمرا ممنوعا وغير مرغوب فيه من منظور الفكر الليبرالي، إذ لا بد من الفصل واستقلال كل سلطة عن الأخرى. وهذا الفصل يجعل مسطرة إصدار القرار طويلة، في حين أنه في أوقات الأزمات تقوم الحاجة إلى السرعة في اتخاذ القرار، لأنها أمر استعجالي.
وقد اعتدتُ، في محاضراتي وفي كتاباتي، أن أركز على مفهوم رئيس، هو مفهوم السيادة. فحين تنعدم السيادة، لا يمكننا الحديث عن الدولة. وهذه السيادة، في تقديري، هي نقطة الانطلاق بالنسبة للحرية الجماعية والحرية الفكرية. فالسيادة تعني أن نفكر انطلاقا من واقعنا الاجتماعي والثقافي، وأساسا من منظومتنا الأخلاقية. والاقتصاد ليس إلا مرآة للواقع وللقيم التي تعتمل فيه، والتي تسمح لنا بإنشاء نموذج فكري ينتمي إلينا ويشبهنا. وهذا المفهوم [مفهوم السيادة] يتم تفكيكه وتضعيفه باستمرار، من خلال عولمة الفكر الليبرالي. ولذلك أركز عليه بشكل ملح، وعلى ضرورة فهمه فهما عميقا. وهو يعني بشكل مختصر: أن نكون قادرين على التفكير الحر، انطلاقا من واقعنا ومن منظومتنا الأخلاقية، وأن نكون قادرين من الناحية الاقتصادية على أن تكون لدينا صناعة نتحكم فيها وفقا لحاجياتنا، ووفقا للأزمات الطارئة على وطننا، وليس أن نكون مرهونين بغيرنا وبأزماته.
س: الدكتور بوبوح:
بينتُم أن الأزمة كشفت عن أن الأفكار الليبرالية التي يروج لها في مجتمعنا ليست إلا خطابا سياسيا، ولم تتحول إلى فكر، وبرز ذلك من خلال هذه الجائحة، حيث اختفت المفاهيم الليبرالية، وعادت الخصوصيات الثقافية لتبرز بشكل أكبر. وكأن العولمة نظام اقتصادي، هو معك في أوقات الرخاء، ولكنه سرعان ما يتبرأ منك في أوقات الشدة؛ ذلك أنه ما أن حلّت الجائحة حتى اختفت تلك الخطابات التي كانت تروج لها العولمة، وأغلقَ كل بلد حدوده، وانغلق كل شخصٍ على نفسه. واختفى المجتمع الدولي والمنظمات الدولية والصداقة الدولية، ولم يبق إلا مفهوم الدولة، ولم تجد الدول إلا ما تملك، وما تتوفر عليه من بنايات ومرافق ومعدات للاستعانة بها لمواجهة الجائحة.
فهل يمكن القول بأن هذه الأزمة هي بداية نهاية العولمة الرأسمالية؟ وهل يمكن التنبؤ بظهور منظومة قيمية واقتصادية جديدة على أنقاض هذه المنظومة؟
ج: الدكتور عشعاشي:
أرجو ذلك -يضحك -، أناضل منذ سنوات لإقناع نخبتنا بهذه الفكرة، والانخراط في التأسيس لمنظومة فكرية واقتصادية جديدة لدولتنا، ولعلاقتنا بغيرنا من الدول. لكن قبل الحديث عن مفهوم العولمة، لا بد أن نتحدث عن مفهوم الإنسانية، والذي كان وراء ظهور مفهوم العولمة.
إن مفهوم الإنسانية هو مفهوم مجرد، ليس له وجود واقعي، فهو مجرد تصور ذهني، لا يمكن رصده متجسدا في الواقع، في حين أن مفهوم الشعب هو مفهوم موضوعي وواقعي، نشعر به ونراه. والتجسد والقرب من الاعتبارات المؤثرة في الوعي الفردي للناس. فلو سمعت بخبر موت ألف شخص في دولة بنغلادش، مثلا، بسبب الزلزال، سيكون الأمر بالنسبة لك مجرد رقم، قد لا تعيره أدنى اهتمام. لكن، لو بلغ إلى علمك أن مائة شخص ماتوا في مدينة بني ملال في حادث مروري سيكون الأمر مختلفا، ستحزن وربما قد تبكي؛ لأن هؤلاء قريبون منك. ومبدأ القرب يفيد أنه كلما كان الشخص قريبا منك، عائليا أو ثقافيا أو جغرافيا أو حضاريا، ستشاركه تعاطفا يفوق بدرجات ذلك الذي تشاركه مع شخص آخر بعيد عنك، ولا تربطك به أية رابطة أخرى، غير الإنسانية.
إن هذه الواقعية والقرب قد حاولت العولمة إخفاءهما من خلال إقناع الناس أنها سبيلهم للثراء. ولكن الحقيقة أنها ليست إلا سبيلا لثراء الأثرياء أصلا؛ لأن الفوارق الاجتماعية أصبحت تتضاعف بشكل مخيف في ظل هذا النظام الاقتصادي، ليس في المغرب وحده، بل في دول كبرى مثل الولايات المتحدة؛ إذ يوجد ما يزيد على أربعين مليون نسمة تحت عتبة الفقر، ويعيشون بالإعانات الاجتماعية التي تقدمها الدولة (العيش بالبونات). وهذا يعني أننا نتحدث عن فوارق اجتماعية مهولة، تختفي وراء مظاهر استعراضية لمنتجات الحداثة [هواتف أيفون، سيارات فخمة، بذخ اجتماعي لدى بعض الفئات…] لكن عندما تحل الأزمة، نرجع إلى الواقع العملي، وإلى حقيقة الأمر في نفسه؛ أي أننا نعود إلى الدولة الوطنية، وإلى الشعب، وإلى المرجعيات الحقيقية الثابتة؛ لأن هذه المكونات الحقيقية وحدها الكفيلة بمساعدتنا على مواجهة الأزمة. بينما الإنسانية والعولمة والتقدم وغيرها، ليست إلا مفاهيم مجردة وأفكارا ذهنية. والفرق شاسع بين فكرة ما أسمع بها، وبين أمر قريب يمسني، ولصيق بحياتي اليومية.
طبعا، أعي تماما أن نخبتنا ومثقفينا لن يقتنعوا بسهولة بأهمية العودة إلى مفاهيم السيادة والحمائية والخصوصيات الثقافية؛ فهذا الأمر يحتاج إلى نضال فكري طويل، خاصةً وأن هذه النخبة ـ أو معظمها على الأقل ـ لها نظام فكري منفصل تماما عن الشعب؛ إذ تستقي جل أفكارها من المنظومة الفكرية المهيمنة، وهي المنظومة الفكرية الغربية الليبرالية الرأسمالية، وليس المسيحية. وربما يرجع سبب ذلك إلى أن أغلبهم قد درس في الغرب، والكثير منهم له مصالحه مع هذه الجهات. وهذا يعني بشكل مباشر أنه ليس من مصالحهم أن تحصل أية تغييرات جذرية، فكرية واقتصادية واجتماعية في المغرب.
وهذا النضال الفكري الذي أدعو إليه ليس موجها إلى مجال السياسة الحزبية، مع أن هذه الأحزاب قد تساعد المرء على تمرير بعض الأفكار، وتتيح له فضاءً يشتغل فيه، ولكن المجال الرئيسي لهذا النضال هو المجال الفكري، أو مجال الميتابوليتيك ـ ما وراء السياسةـ. ومن أسف، فمجال ما وراء السياسة ما زلنا مغيبين عنه، وهو ما يفسر كونَنا مجرد أدوات، نستهلك ما يُنتج لنا على مقاسات محددة من طرف المنظومة الفكرية الغربية الليبرالية الرأسمالية. إن العودة إلى الاشتغال على مجال “ما وراء السياسة” هي نقطة الانطلاق التي يمكن التعويل عليها، إنْ أردنا حقا أن نسير بطريقة موجهة ورشيدة. فما وراء السياسة هو الذي يصنع مجال السياسة الموضوعية، وهو الذي يؤثر فيه.
إننا حين نشتغل في مجال “الميتابوليتيك” سننتج مفاهيم تنتمي إلينا، ولن نستورد مفاهيم تنتمي إلى غيرنا، وسنحل مشاكلنا، ولن نستورد حلولا لمشاكل لا تنتمي إلى محيطنا وثقافتنا. فلو تأملنا اليوم في واقعنا، ما هي المفاهيم المهيمنة في خطابنا السياسي والاجتماعي؟
هي مفاهيم الحكامة، الحكامة الجيدة، الدمقرطة، التحديث، المساواة، التقدم، وهي مفاهيم لا تعني شيئا بالنسبة للسواد الأعظم من المغاربة، إن لم نقل بالنسبة للمغربي بشكل عام. بينما هناك مفاهيم أخرى متجذرة في المخيال الشعبي للمغاربة كمفاهيم: الحكرة، السلطة، المخزن، الدولة.
إن مفهوم الدولة لدى كل مغربي له وزن ثقيل، وله جذور تاريخية راسخة؛ معنى ذلك أن هذه المفاهيم لم تطرأ عليه فجأة، كمفاهيم التحديث والدمقرطة وما شابهها. ولذلك فالمغربي يستبطن مفهوم الدولة بشكل عميق، وقد لا يحتاج إلى تعريف: ما هي الدولة؟ لأنها بالنسبة إليه من الواضحات التي لا تُعرَّف. لكن لو سألت عشرين مغربيا عن تعريف: ما هي الحكامة؟ لحصلتَ على عشرين تعريفا، كل واحد منها مختلف عن الآخر. وربما يرجع السبب في هذا الاختلاف إلى أن الكلمة في حد ذاتها ليس معنى حقيقيا أصلا.
وحتى لا أطيل في الإجابة عن هذا السؤال، أقول: إن الأزمة لوحدها لن تُحدث أي تغيير، لكنها قد تكون باعثة على ذلك، إلا أنه لا بد من النضال الفكري لتحقيق هذه الغاية.
س: الدكتور بوبوح:
تُلحّون على ضرورة النضال الفكري، وهذا النضال في تقديركم موجه ضد العولمة والحداثة والفكر الليبرالي عامة. لكن في الواقع المغاربة هم في وسط بين الشرق والغرب، فهم من جهة يتم إغراقهم بأفكار رأسمالية من جهة الغرب، ويُشحنون بأفكار متطرفة، ذات صبغة دينية، من جهة الشرق؛ فمن أين يضع المغربي أقدامه حين يريد أن يناضل ضد الهيمنة الثقافية الليبرالية؟ بمعنى آخر، ما هو “اللوغوس المغربي” أو “تمغربيت” التي علينا أن نناضل من أجلها؟
ج: الدكتور عشعاشي:
لنبدأ من المنطلق الفقهي، المغاربة عبر التاريخ لهم تميز مذهبي، وهو التمسك بالمذهب المالكي على مستوى الفروع الفقهية، ومن المنطلق العقدي لدينا المذهب الأشعري على مستوى الأصول العقدية، وعلى مستوى السلوك لدينا التصوف الجنيدي السني، ولا زلنا إلى اليوم نتبنى هذه الاختيارات، من وجهة نظرية على الأقل. لكن لو قمنا بتجربة اجتماعية، وسألنا أي مغربي في الشارع: ما هو المذهب الأشعري؟ هل سيكون قادرا على الإجابة، ولو إجابة تقريبية؟ الجواب بالنفي، إذا لم يكن طالبا في الدراسات الإسلامية طبعا. وهذا يعني أننا، من جهة فقهية وعقدية محضة، لدينا انتماء نظري، لكن واقعيا لا نستشعر ولا نفهم بشكل دقيق: ما الذي يميزنا مذهبيا وعقديا عن باقي المذاهب والتيارات الإسلامية الأخرى.
ولو عدنا إلى المذهب المالكي، سنجده يقرر أن من بين مصادر استنباط الأحكام: العرفُ، الذي هو مفهوم مركزي في هذا المذهب. وفكرة العرف كمصدر من مصادر الالتزام أو استنباط الأحكام تتلخص في أنه إذا وُجد “تقليد” أو “ممارسة متكررة” لدى شعب معين، لا يُناقض مبادئ وأصول الشريعة، فإننا نستنبط منه أحكاما فقهية ملزمة، وتُعطَى لها قيمة دينية. وهذه الميزة للمذهب المالكي تجعله قادرا على مواكبة التغيرات والحاجات الاجتماعية لكل أمة أو شعب على حدة.
ومن جهة قيمية، هناك قيم مشتركة بين جميع الحضارات، كحسن العدل والكرامة والإنصاف، وقبح الظلم والإهانة والجور، لكن طريقة تقديم هذه القيم هي ثقافية بالأساس. بمعنى آخر، إن كل ثقافة تمارس العدل وتدافع عن الكرامة الإنسانية بطريقة مختلفة عن الأخرى، كما أنها تناهض الظلم وتنبذ احتقار الإنسان بطريقة مغايرة لثقافات أخَر. فما نحتاجه هو أن نستوعب خصوصياتنا وننطلق منها.
س: الدكتور بوبوح:
قد يقول قائل: لكن، أليست مفاهيم الإنسانية والحرية والعدالة الاجتماعية هي التي تتمركز حولها الحداثة؟ سيقول لك الحداثي: أنا كإنسان حر، أريد أن أعيش بطريقة أختارها، ولا تأتيني الأوامر والتعليمات من جهة متعالية، كالدين والمنظومة الأخلاقية. والليبرالية، كما تعلمون، هي وليدة الحركة الإنسانية humanism. وإذا كان الأمر كذلك، لماذا نحن متوجسون من الحداثة ونعتبرها تهدد ثقافتتنا؟ أليست هذه القيم نفسها نتشاركها جميعا؟
ج: الدكتور عشعاشي:
في واقع الأمر، هناك فوارق كبيرة بين الأمرين، فالفكر الحداثي الليبرالي ينطلق من الفرد، وكأن هذا الأخير يحمل في داخله الإنسانية كلها. وهذا المنظور للإنسان ينطلق من مفهوم آخر هو مفهوم “الحقوق الطبيعية”، والتي يولد بها ويعيش ويموت معها الإنسان. ومن منظور حداثي، لا يمكن أن يفقد الفرد هذه الحقوق الطبيعية تحت أي ظرف من الظروف. وهذا مفهوم جديد للإنسان أتت به الحداثة؛ فهي، رغم أنها استقت من المسيحية مجموعة من المفاهيم، إلا أنها أضفت عليها محتوى فلسفيا مختلفا، لغاية إعادة اكتشاف الكون انطلاقا من الفرد. وقد تم اختزال كل شيء في الفكر الحداثي في قضيتي: الحرية والإرادة. ومن هنا، فالمجتمع لا يؤسس بناء على أفكار مستمدة من الميتافيزيقا، أو من الإرادة الربانية أو النصوص الدينية، وإنما يتم تأسيسه انطلاقا من حرية الفرد، والتي تلتقي مع حرية فرد آخر، وتؤسس ما يسمى بالعقد الاجتماعي.
غير أن مفهوم الإنسانية يمكن أن نضفي عليه معنى آخر ــ أُفضّلُ بديلا عن “الإنسانية” مفهوم “الكونية”ــ، والذي يعني أن هناك نقاطا كونية مشتركة بين جميع الشعوب، ما دام أن الخالق في اعتقادنا هو واحد، وأن فطرتهم هي فطرة واحدة؛ {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [الروم: 30]، فالفطرة في كل الناس واحدة، ولكن طريقة توجيهها يختلف من شخص لآخر، ومن ثقافة لأخرى، والتعبير عنها كذلك يختلف من ثقافة إلى أخرى، ويجب احترام هذا الاختلاف.
إن الحرية في المخيال الشعبي الصيني ليست الحرية نفسها في المخيال الشعبي البريطاني أو الألماني أو المغربي. ولنقدم على هذه الفكرة مثالا أوضح، وهو “حق الحياة” الذي تتفق جميع الحضارات على قدسيته؛ ذلك أن القتل محرم في جميع الديانات والثقافات والحضارات من غير استثناء. لكن هذا الحق في بعض الحضارات يمكن للإنسان أن يفقده، إذا ارتكب أفعالا جرمية معينة، حيث يتم إعدامه. لكن الفكر الحداثي يذهب إلى أن هذا الحق مقدس تقديسا مطلقا، ولا يمكن لشخص أن يفقده مهما كانت الظروف أو الأسباب؛ لأن حق الحياة هو حق طبيعي لا يمكن التوافق على إسقاطه عن شخص معين.
فالذي ينبغي أن نعيه هو أننا نتوفر على منظومة أخلاقية وثقافية غنية، ويجب علينا إعادة اكتشافها وتحيينها وتكييفها مع تحديات عصرنا. وشبكتها المفاهيمية تعبر عنا بشكل أكثر صميمية ووضوحا، ولذلك أركز على مفهوم “الحكرة” بشكل ملح، لأنه يعطي معنى صميما أكبر بكثير من مفهوم اللامساواة أو الفوارق أو التفاوت. إذ إن هذه الأخيرة تحيل إلى معطيات خارجية، وكأن الفوارق عوارض سماوية لا نتحكم فيها، في حين أن مفهوم “الحكرة” يدل على الفعل الإنساني، ويقتضي أن يكون هناك طرفان؛ “فاعل”، وهو الحكّار، ومفعول به وهو المحكور.
س: الدكتور بوبوح:
عودة إلى الجائحة، ما هي، في نظركم، أهم التغيرات الاجتماعية والنفسية التي وقعت في المغرب بسبب الجائحة؟ وهل يمكن القول: إن الجائحة أسهمت في تخلص المغاربة من عقدة الأجنبي، أو التقليص من تأثيرها على الأقل؟
ج: الدكتور عشعاشي:
هذا صحيح إلى حد ما، لكن لا ينبغي أن يصل بنا الأمر إلى الغرور. ينبغي أن نعتز بما حققناه في حدود معقولة. طبعا، هنا لا بد أن ننبه إلى خسة بعض التعليقات التي تشمت فيما يقع للشعب الفرنسي بسبب هذه الجائحة. عموم الشعب الفرنسي اليوم هم إخوتنا، لم يستعمرونا ولم ينهبوا ثروات بلادنا. مشكلتنا المستمرة كانت مع النخبة الفرنسية السياسية والثقافية، والتي استعمرت بلادنا. وأعتقد أن ما يُرتكب في هذا الشعب من قبل مسؤوليه اليوم هو جريمة حقيقية. ولأجل ذلك، هم يستحقون تعاطفنا ودعواتنا أكثر من أي شيء آخر.
نعم، من غير شك، الشعور بالوطنية هو أمر إيجابي، طالما بقي منضبطاً ولم يصل إلى حدود الغلو. وفي نفس الوقت، علينا أن ندرك أن تأخرنا وتخلفنا التكنولوجي أكبر بكثير من المكاسب القليلة التي حققناها في تدبير الجائحة. ولا ينبغي أن ننخدع ببعض النتائج الآنية، ففرنسا رغم كل مشاكلها اليوم، فإن قدرتها الصناعية والتكنولوجية تسمح لها أن تستدرك وتعوض كل الخسائر، إذا وُجدت نخبة وطنية حقيقية تحسن التدبير. ونحن بخلافهم، نعاني من هشاشة اقتصادية وتخلف تكنولوجي، نحتاج إلى الكثير من العمل على المدى البعيد لنستطيع أن نقارن بفرنسا.
إن ما حققناه في الجائحة لا يتجاوز حدود الحفاظ على هيبة الدولة، وعلى تناسق السلط فيها، وعلى القدرة على الإقناع. ولا ننسى أيضا أن ما نعتبره نحن إنجازا في تدبير الجائحة هو من منظور الحداثة تخلّف، ولذلك قلت: إن تخلفنا كان حاسما في تدبيرنا للجائحة. طبعا نحن لا نسلم أن هذا “تخلّف”، لكن في التصنيف الحداثي هو كذلك. من هنا، يتعين التأسيس لسياسة اقتصادية وتكنولوجية نستدرك بها ما فاتنا، دون أن نفقد هذه المميزات الثقافية التي تحدثنا عنها. وهذا الانتصار الصغير على الوباء لا يجعلنا بأية حال دولةً أفضل من فرنسا أو غيرها. ينبغي أن نكون صادقين مع ذواتنا، نحن لسنا أفضل من هذه الدول التي تعاني اليوم مع الوباء. نحن أفضل من فرنسا في تعاملنا مع الجائحة، فقط. لكن في الجانب العسكري والاقتصادي والاجتماعي وغيرها، نحن متأخرون جدا مقارنة مع هذه الدولة.
س: الدكتور بوبوح:
ذكرتم أن هناك خسائر اقتصادية عالمية مهولة، وأن الدول العظمى تستطيع أن تستدرك هذه الخسائر بسرعة بفضل تقدمها التكنولوجي. هل يمكن إعطاء أرقام ونسب تقديرية لهذه الخسائر، سواء بالنسبة للمغرب أو للعالم؟ وهل كان المغرب أقل ضررا مقارنة مع غيره من دول العالم؟ وما هو الوقت الذي يمكن أن يحتاجه العالم لتجاوز مخلفات هذه الجائحة اقتصاديا؟
ج: الدكتور عشعاشي:
يصعب، في الحقيقة، مقاربة هذا السؤال بشكل شامل في هذا اللقاء السريع، لأنه يقتضي الخوض في تفاصيل تقنية دقيقة. ولكن مع ذلك سأحاول. ولنتحدث بداية عن الاقتصاد الأمريكي والأوربي ـ وبدرجة أقل، الاقتصاد الياباني.
ففي هذه الاقتصاديات، هناك نوعان من الخسائر:
  1. الخسائر المتعلقة بالسوق المالية أو البورصة،
  2. الخسائر على مستوى الاقتصاد الحقيقي: الصناعة والتجارة.

فبالنسبة للنوع الأول، تعتبر مجرد خسائر افتراضية وليست خسائر حقيقية. ومثال ذلك أن أية شركة عندما تريد أن تمول مشروعا معينا، فأمامها طريقتان لتمويله، إما أن تقترض من المؤسسات البنكية، أو أن تبيع أسهما من رأسمالها في السوق المالية (بورصة الأسهم). فإذا لجأت إلى الطريقة الثانية، فإن هؤلاء الذين سيشترون الأسهم سيصبحون شركاء في الشركة، لا ليظلوا شركاء على الدوام، ولكن لكي يعيدوا بيع الأسهم عند ارتفاع ثمنها. وقد تنامى هذا النوع من المضاربات في السوق المالية الافتراضية، لتترتب عنه أزمة 2008 الاقتصادية. إذ بدأت الأسهم تفقد قيمتها في السوق المالية، لأن الشركة في الواقع تراجعت مبيعاتها.

ولتجاوز هذه المشكلة، قامت البنوك المركزية بخلق ملايين الدولارات أو الأورو وضختها في الأبناك والأسواق المالية لتعويض تلك الخسائر الواقعية. وهذه الملايين من الدولارات بقيت متداولة في السوق المالية الافتراضية، وظلت قيمة الأسهم ترتفع باستمرار بطريقة اصطناعية، لتنفصل الأسهم عن كونها مرآة لواقع الشركة. ولأجل هذا، قلنا: إن تلك الخسائر التي تحدث في السوق المالية هي خسائر وهمية، لأن قيمتها في الواقع هي قيمة وهمية، وما كان ينبغي أن تكون أصلا.
في المستوى الثاني، المرتبط بالاقتصاد الحقيقي الواقعي، من المتوقع أن تظل هذه الأزمة وتداعياتها لوقت طويل. لكن ينبغي أن لا ننسى أن هذه الأزمة في الأصل ليست أزمة جديدة، وإنما هي امتداد لأزمة 2008. ذلك أن العالم لم يقم بحل الأزمة القديمة، ولم يعالج المشاكل الهيكلية في الاقتصاد العالمي، وإنما أخر الانهيار التام بطبع المزيد من الأوراق المالية وضخها في الأبناك والأسواق المالية، ما سمح للاقتصاد بالاستمرار وعدم الانهيار، ولكن لم يكن هناك أية إجراءات حقيقية من شأنها أن تجعل الاقتصاد العالمي ينطلق في اتجاه آخر.
ولذلك عرف العالم، في الفترة الفاصلة بين 2008 و2013، أزمات اقتصادية كبيرة مست بعض دول الاتحاد الأوروبي، وأقصد هنا أزمة المديونية في اليونان والبرتغال وإيطاليا وإسبانيا، والتي مثلت الموجة الثانية لأزمة 2008. وبالإضافة إلى ذلك، كانت نسبة النمو الاقتصادي لدول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، منذ 2013 إلى حدود 2020، تساوي 0%. وهذا يعني أن العالم بقي في أزمة اقتصادية صامتة.
وهذا كله يسير في اتجاه تأكيد أن جائحة كورونا لم تُحدث أزمة اقتصادية، بقدر ما أنها كشفت عن الأزمة القائمة، وأزالت الستار عما كان يتم إخفاؤه بالسياسات النقدية، والتلاعب بالمؤشرات المتعلقة بالتضخم والبطالة والنمو الاقتصادي وغيرها، بتخفيض أو الرفع من النسب المعبرة عن هذه الظواهر. فأصبحت المؤشرات الرقمية والإحصائية لا تعبر عن الواقع، سواء تعلق الأمر بالتضخم أو بالبطالة أو بالنمو الاقتصادي. وهذا كله لكي نظهر أننا تجاوزنا الأزمة، وإن كان في حقيقة الأمر بخلاف ذلك.
وبالعودة إلى الاقتصاد المغربي، نلحظ أننا ما نزال في اقتصادٍ واقعي؛ فالسوق المالية عندنا شبه منعدمة، ليس لها دور مؤثر في الاقتصاد الوطني. والقطاع البنكي عندنا محتكر؛ حيث إن أربعة أبناك فقط تحتكر السوق بنسبة تتجاوز الثلثين. ولذلك فالاقتصاد يقوم بشكل أساس على الصناعة والتجارة، وسيعرف، ولا شك، تراجعا في نسبة الصادرات والواردات لارتباطنا مع العالم.
وفي هذه الحالة، أمامنا خياران اثنان؛
  1. إما أن نلجأ إلى سياسات التقشف من أجل أداء المديونية التي تثقل كاهلنا، وهذا سيزيد من مشاكلنا الاقتصادية؛
  2. وإما أننا سنعتمد سياسة التحفيز، والتي تتطلب العديد من الإصلاحات، وعلى رأسها إصلاح دور بنك المغرب.
وما أريد قوله بهذا الكلام هو أن الأزمة الاقتصادية اليوم في المغرب ليست مسألة حتمية لا يمكن تفاديها. ستكون حتمية فقط في حالة واحدة، وهي إذا لم نغير نموذجنا الفكري، ومقاربتنا للمفاهيم الاقتصادية والسياسية. وأما لو غيرنا هذه المفاهيم وهذا النموذج الفكري الذي نتبعه، فأعتقد جازما أننا نملك كل الإمكانيات والآليات للخروج من الأزمة، ولو ظلت هذه الأزمة قائمة في العالم.
س: الدكتور بوبوح:
أفهم من كلامكم أنكم ترون أن المغرب بإمكانه، وأمامه فرصة تاريخية، أن يستدرك ويؤسس لاقتصاد وطني مغربي قوي. ولكن ذلك رهين بتغيير النموذج الفكري والنظرة إلى المفاهيم الاقتصادية التي نتبناها اليوم في المغرب. وفي مقدمة ذلك تغيير دور البنك المركزي أعني بنك المغرب، بحيث لا يُختزل دوره في محاربة التضخم من خلال السياسة النقدية، وإنما يصبح فاعلا رئيسا في السياسة الاقتصادية للحكومة، وتأسيس برلمان اقتصادي يسهر على دراسة مقترحات التمويل والمصادقة عليها.
هل لكم أن تشرحوا لنا هذه الفكرة بتفصيل أكبر؟
ج: الدكتور عشعاشي:
في الواقع، إنني أدافع عن هذه الفكرة منذ أكثر من ثماني سنوات، أي قبل طروء هذه الأزمة. وكانت غايتي أن نكون مستعدين لمواجهة مثل هذه الأزمات، التي هي احتمالات قائمة دائما. وقد حاولت كتابتها بطرق مختلفة، للإقناع بها، ولتبسيطها بشكل يجعلها أكثر وضوحا.
تنطلق هذه الفكرة من مبدأ بسيط، وهو أن المال مفهوم تقني وسياسي معا. وللأسف، فنحن نتعامل معه حاليا على أساس أنه مفهوم تقني فقط، ولذلك بنك المغرب يستقل بالسياسات النقدية، ولا علاقة للسلطة التنفيذية به. ومعلوم أن الحكومة تنبثق من الانتخابات التشريعية، أي من إرادة الشعب. ومعنى ذلك أننا حين نقول: إن بنك المغرب مستقل عن الحكومة، فالنتيجة هو أنه مستقل عن السيادة الشعبية وإرادة الأمة التي انبثقت عنها الحكومة. وهذا ينبغي أن يكون مرفوضا. وكأنه يُقال للناس بطريقة غير مباشرة: إن المال مفهوم تقني لا يمكنكم أن تفهموه. عوضا عن ذلك، نحن نتوفر على التقنيين والخبراء وسنقوم بما يلزم القيام به نيابة عنكم. وليس عليكم إلا أن تثقوا فينا وفي صلاح ما نقوم به. لكن في المقابل، لا يمكنكم محاسبتنا ولا مراقبتنا في عملنا، لأنكم بالأساس لا تفهمون جوهر ما نقوم به.
وأما الدور الوحيد المنوط ببنك المغرب حاليا فهو الحفاظ على مستوى وتوازن الأسعار، ومحاربة التضخم.
ولكن، المال في حقيقته قبل أن يكون مفهوما تقنيا، هو مسألة سياسية؛ لأن المال فيه ثلاثة مستويات:
  • المستوى الأول، هو المستوى الرمزي؛ فإذا أخذنا أية ورقة نقدية نجد أنها تحتوي على رموز، ترمز إلى القيم التي تمثل الشعب: الله الوطن الملك بالنسبة للمغرب، الحرية والمساواة والأخوة بالنسبة لفرنسا، نثق في الإله بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية. والعملة تعتبر بمثابة بطاقة زيارة ـLa carte visit للدولة في العالم. فأي شخص تقع في يديه ورقة نقدية من صنف مائة درهم مغربية سيعرف النظام السياسي في هذا البلد، وما هي القيم التي يعتنقها الناس فيه، ويستطيع أن يكوّن رؤية عن ثقافة هذا البلد. فالعملات تحتوي على مآثر ومعالم معمارية وتاريخية، كما تحتوي أيضا على صور الحاكم أو الحكام السابقين؛ أي أن الورقة النقدية تحمل دلالة رمزية وسيادية، وهو ما يعني أنها ليست مجرد ورقة تقنية.
  • المستوى الثاني، يرتبط بالجانب السياسي، ذلك أن أية ورقة نقدية من صنف مائة درهم، لا تساوي قيمتها في حقيقة الأمر مائة درهم، وإنما تساوي قيمة الورق الذي صنعت فيه والمداد الذي كتبت به. وإنما تأتيها تلك القيمة من اعتقادنا الجماعي فيها؛ أي أن الشعب هو من يعطيها تلك القيمة وليس بنك المغرب. فالثقة في تلك العملة هو ما يعطيها قيمتها، وحين تهتز هذه الثقة فإنها ستنهار. ومن ثم، فأساس قيمة العملة هو الشعب؛ أي من تعاقدنا الاجتماعي على تلك القيمة. والنتيجة أن العملة بهذا المعنى هي موضوع سياسي.
  • المستوى الثالث، هو الجانب التقني؛ وهو جانب لا يمكن استبعاده بطبيعة الحال؛ لأن إدارة النقد والمال هو أمر في غاية الصعوبة والتعقيد، ويتطلب وجود خبراء وتقنيين مهرة في مجال النقد والسياسة النقدية.
والفكرة التي أقترحها لا تهدف إلى نفي الصفة التقنية عن المال، ولكن تقصد إلى إخراجه من النظرة الضيقة ذات البعد الواحد، إلى نظرة أشمل تسع هذه المجالات الثلاث التي ذكرتها.
وطالما كنت أطرح هذا السؤال: هل الاقتصاد في خدمة العملة أم العملة في خدمة الاقتصاد؟ وما الذي يجب أن يكون؟ وما هو الكائن حاليا؟
حسب منظومتنا الحالية، إن الاقتصاد يكرس لخدمة العملة. وأنا أرى أن العملة هي آلية ينبغي أن تكون في خدمة الشعب؛ أي في خدمة الاقتصاد. فمحاربة التضخم هو دور رئيسي ينبغي أن يقوم به البنك المركزي، ونحن ندافع عنه، ولكن ينبغي أن يضاف إلى هذه المهمة مهام أخرى يقوم بها بنك المغرب.
س: الدكتور بوبوح:
ما هي هذه المهام التي ترون من الضروري أن تضاف إلى مهام بنك المغرب؟ ومماذا ينبغي أن يتكون البرلمان الاقتصادي الذي اقترحتموه في بعض كتاباتكم، حتى يتأهل للسهر على هذا التحول في أدوار بنك المغرب؟
مقالات مرتبطة
ج: الدكتور عشعاشي:
هناك دوران اثنان ينبغي أن يقوم بهما بنك المغرب، وهي موجودة في بعض الأبناك مركزية في دول أخرى في العالم، كالبنك الفيدرالي الأمريكي، والبنك السويسري، وبدرجة أقل البنك الياباني.
الأول هو محاربة التضخم والتحكم في الأسعار، وهو ما يقوم به بنك المغرب حاليا، ومعظم البنوك المركزية؛
والثاني، وهو الذي أطالب بإضافته، هو تمويل النمو الاقتصادي. فإذا حصل اتفاق بين البرلمان الحكومة على أننا نحتاج إلى نمو اقتصادي بنسبة معينة، أو أن قطاعا معينا يحتاج إلى استثمارات للنهوض به، ففي اعتقادي ينبغي أن تعطى لبنك المغرب إمكانية تمويل هذا النمو، بنسبة فائدة تساوي 0%. ولكن ينبغي أن ينحصر هذا التمويل في النمو فقط، وليس في النفقات الاجتماعية. وينبغي اعتماد معايير صارمة في تمييز المشاريع التنموية عن غيرها. وقد اقترحت للتنسيق بين بنك المغرب والحكومة أن تكون هناك مؤسسة وسيطة، هو البرلمان الاقتصادي، وهو الذي يبت في المشاريع التنموية التي تستحق التمويل المباشر من بنك المغرب من التي لا تستحق هذا التمويل.
ففي وجود هذا البرلمان الاقتصادي، فإن الحكومة حين تحتاج إلى قرض من بنك المغرب لتمويل مشروع تنموي، لن تتواصل مع بنك المغرب بشكل مباشر، وإنما ستعرض الأمر على البرلمان الاقتصادي، الذي يدرس الطلب ويصوت عليه بالقبول أو الرفض. والوضع الحالي أن الحكومة حين تريد إنجاز مشروع تنموي معين، ولا تملك السيولة النقدية لتنفيذه، فإنها تلجأ إلى الاقتراض من السوق الداخلية من خلال الاكتتاب العام لسندات الخزينة. وهي بهذه العملية تقوم بالاقتراض من الأبناك الداخلية ومن كل المستثمرين في الداخل الذين يشترون هذه السندات. وحين لا يكون هذا الاقتراض الداخلي كافيا فإنها تلجأ إلى الاقتراض من الخارج. وهذان الدينان الداخلي والخارجي يكلفان نسبة فائدة عالية، وهو ما يزيد من حجم الدين العمومي والتي نؤديها سنويا من الميزانية العامة.
ويكفي لإدراك التكلفة الباهظة لهذا النوع من التمويل، أن نعرف أن هذه السنة لوحدها خُصصت لأداء الدين العام في الميزانية السنوية ثلاثين مليار درهم. وهو مبلغ باهظ للغاية، كان يمكن أن ننجز به مستشفى جامعيا ضخما، أو سكة جديدة رابطة بين أكادير ومراكش، أو غيرها من المشاريع التي ستعود بالنفع الكبير على الاقتصاد الوطني.
وفكرتي باختصار هي أن المشاريع التنموية المهمة، التي لا شك في أنها سيكون لها عائد كبير على الاقتصاد الوطني، ينبغي أن تمول بنسبة فائدة تساوي 0%، وهذا النوع من التمويل لن يقوم به إلا بنك المغرب.
س: الدكتور بوبوح:
ما هي طريقة تكوين هذا البرلمان الاقتصادي الذي تقترحونه وسيطا بين الحكومة وبنك المغرب؟
ج: الدكتور عشعاشي:
إن الهدف من فكرتي هو تجاوز النظرة الأحادية للمال، واعتباره آلة تقنية محضة، ولذلك اقترحت أن يقسم البرلمان الاقتصادي إلى ثلاثة أجزاء:
  • ثلثه الأول، سيكون عبارة عن خبراء بنك المغرب، ذلك أن المال له جانب تقني لا بد فيه من الخبراء والتقنيين الذين راكموا تجربة طويلة في المجال؛
  • الثلث الثاني سيككون عبارة عن باحثين متخصصين في التنمية الاقتصادية، لهم رؤية شاملة للاقتصاد وللنمو الاقتصادي وللاستراتيجيات الاقتصادية؛
  • الثلث الأخير سيتكون من برلمانيين يمثلون الأحزاب السياسية الممثلة في البرلمان، كلٌّ بحسب نسبة تمثيليته فيه، يتم اختيارهم على أساس الكفاءة، بأن يكونوا حاصلين على إجازة في الاقتصاد في أضعف الأحوال، وأن تكون لهم تجربة بحثية أو في عملية إدارة البنوك أو العمل البنكي عموما، وبما أن الأمر يتعلق بمجال حساس، فهذه المعايير ينبغي التعامل معها بصرامة.
والغرض من تنويع مكونات هذا البرلمان هو أن نضمن رؤية شمولية للموضوع، وأن لا يتم قصره على الجانب التقني المحض. بالإضافة إلى ذلك، هذا الاقتراح يضمن احترام الجانب الرمزي السيادي للشعب، المتمثل في الثلث الذي يمثله البرلمانيون، وجانب استراتيجي ينصب على الخطط الاقتصادية البعيدة المدى، من خلال جعل ثله من الخبراء في الاقتصاد، وأخيرا الجانب التقني المتمثل في خبراء وتقنيو بنك المغرب.
والحكومة حين تطلب تمويلا من بنك المغرب فإنها تحيله على البرلمان الاقتصادي لمدارسته والتصويت على القرار بالإجازة أو الرفض، من خلال التصويت بأغلبية الثلثين، وإصدار القرار معللا حتى يمكن مناقشته وتقييمه.
س: الدكتور بوبوح:
فكرة رائعة! رغم أنها تبدو يوتيوبية إلى حد ما، لكنها تجعلنا نطمح إلى مغرب أفضل في المستقبل. وعلاقة بهذا الموضوع، ما هي أهم التغيرات السياسية والسياسات الاقتصادية المتوقع أن يلجأ إليها المغرب في فترة ما بعد الكوفيد؟
ج: الدكتور عشعاشي:
في الحقيقة، لا يمكن أن نتحدث عن الوضع مستقبلا في المغرب دون الحديث عن الوضع في العالم أجمع. وإذا نظرنا إلى العالم من حولنا سنلاحظ أن هناك تراجعا نسبيا للهيمنة الليبرالية بما في ذلك دول أوروبا وأمريكا؛ فالمملكة المتحدة انسحبت من الاتحاد الأوروبي، ودونالد، العدو اللدود لليبرالية في صيغتها الحالية، أصبح رئيسا للولايات المتحدة منذ ثلاث سنوات، بالإضافة إلى صعود اليمين الشعبوي في دول عديدة كفرنسا وألمانيا وهنغاريا وغيرها. وهذه التغيرات كلها ينبغي أن تشجع المغرب للتخلص من هذا النموذج الاقتصادي الذي فُرض علينا من قبل صندوق النقد الدولي منذ التسعينات. ينبغي أن نستغل هذه الفرصة لاعتماد نموذج جديد يعتمد على سلطة عموديةـ la verticalité de pouvoir. وأنا مقتنع تماما بفعالية هذا الاقتراح، رغم أنه قد يَصدم الكثيرين، مقتنع أن حالتنا تقتضي ملكية تنفيذية حقيقية، حيث يكون الملك هو رئيس الحكومة، وتنتهي إليه جميع السلالم الإدارية، باعتباره قمة هرم السلطة التنفيذية. وفي هذه الحالة، لا أرى أننا سنحتاج إلى الأحزاب السياسية.
ومفهوم السيادة في المغرب، والحالة هذه، يمكن أن نقاربه بشكل مزدوج، فهناك النظام الملكي وهناك الشعب، وهما ركنا مفهوم السيادة، وما بينهما ليس إلا وسائط كالأحزاب السياسة وجمعيات المجتمع المدني والمؤسسات الدستورية. والفكرة هي القيام بتعديل دستوري، مبني على التوفيق وتنظيم العلاقات بين هذين القطبين، الشعب من جهة والمؤسسة الملكية من جهة ثانية.
فالشعب يمارس حقوقه من خلال ديمقراطية مباشرة، باعتماد نظام الجهوية المتقدمة والبلديات المحلية، والتي تتمتع بسلطات موسعة في إدارة الشؤون والتنمية المحلية، والطرف الثاني هو الملكية التي هي بطبيعتها نظام حكم ممتد في الزمن ومستقر، ينبغي أن يتوفر على رؤية استراتيجية فيما يخص السياسات الكبرى للبلد، والبرامج التنموية ذات الأمد البعيد.
وهذا شبيه بالنظام الذي كان سائدا عندنا في مرحلة ما قبل الاستعمار، حيث كانت السلطة المركزية، المتمثلة في السلطان، هي صاحب القرار في الشؤون العامة التي تمس الأمة، في حين أن القبائل والجهات تستقل بالتدبير فيما يخص الشؤون المحلية. وهو شبيه أيضا بما يتم الحديث عنه منذ أكثر من عقد من الزمن، دون تنزيل فعلي، وأقصد هنا الجهوية الموسعة؛ حيث تستقل الجهات بتحمل مسؤوليتها بالنهوض بالتنموية الجهوية، من خلال بلورة نموذج تنموي يستجيب لحاجيات الجهة، ويتلاءم مع خصوصياتها الثقافية والسكانية وغيرها. والحقيقة أن هذا المقترح الذي أقترحه إن هو إلا توسيع لفكرة الجهوية الموسعة، والذهاب بها إلى أقصى مدى.
ومن هذا التناقض والتقابل البنّاء بين هذين القطبين يمكن أن نؤسس لحركة فكرية وسياسية، أتوقع أن تكون فعالة من خلال اعتماء اقتصاد سياسي واقعي، سيجعلنا نتخلص من التبعية الحالية للمنظومة الاقتصادية والفكرية المهيمنة حاليا على العالم.
ولن أخالفكم الرأي إذا اعتقدتم أن هذا حلم بعيد المنال، لكن التغيرات العظيمة في التاريخ دائما ما تبدأ بفكرة وطموح كبيرين. ومع ذلك، أعترف أنه ينبغي الآن أن نركز على حلول عملية قريبة، كتقوية دور السلطة العمودية، والخروج من هيمنة النموذج الاقتصادي الحالي القائم على العولمة والتبادل الحر، والرجوع إلى الحمائية الذكية واللحاق بالركب التكنولوجي، والعودة إلى الإصرار والإلحاح على مفهوم السيادة، والهيمنة الثقافية المضادة، لاسترجاع المفاهيم والخصوصيات التي ذابت في النظام الحالي. ولن نكون بِدْعاً في هذا الأمر، لأنه هو ما تقوم به دول عظمى اليوم، وفي مقدمتها بريطانيا بانسحابنا من الاتحاد الأوروبي، وهو ما يحاول ترامب أيضا القيام به في أمريكا.
س: الدكتور بوبوح:
كسؤال أخير، لا يمكننا أن ننهي هذا النقاش دون التطرق إلى مسألة المؤامرة الاقتصادية التي يروج لها بعض المحللين، وربما بعض المفكرين أيضا، والذين يربطون انتشار الفيروس الحالي بالحرب الاقتصادية. وعلى الجملة، فهناك ثلاث نظريات، الأولى تجعل الصين مسؤولة عن هذا الفيروس، وترى أن الصين هي من كانت وراء اختلاق هذا الفيروس وتصديره للعالم، بهدف إضعاف اقتصاديات العالم لكي تهيمن على الاقتصاد العالمي؛ والنظرية الثانية ترى أن مختبرات صناعة الأدوية هي مَن كان وراء هذا الفيروس، لبيع اللقاحات لاحقا، والنظرية الأخيرة ترى أن هذا الفيروس ما هو إلا مؤامرة لجعل الناس يقبلون بتقييد حرياتهم وانتهاك خصوصياتهم، من خلال التحكّم في كل جوانب حياتهم والاطلاع على بياناتهم الشخصية، وهو أمر شبيه بما نظّر له أوريل في روايته الشهيرة 1984. ما رأيكم في هذه النظريات، إن صح القول إنها نظريات؟
ج: الدكتور عشعاشي:
مبدئيا، أرى أن السؤال: هل هذا الفيروس صناعة إنسانية أم هو وباء طبيعي؟ هو سؤال ثانوي، لا يهم الجواب عنه بشكل كبير؛ لأن الذي يُهم هو أن الفيروس قائم وموجود/ فهو حقيقة واقعية، ولا يهم مصدره ومَن كان وراءه، هذا أولا؛ وثانيا، ينبغي أن نعترف أن المؤامرات لازمت التاريخ البشري منذ قدم العصور، غير أنه ينبغي أيضا أن نستحضر أن وجود المؤامرات في التاريخ لا يعني أنها تصنع التاريخ؛ فهما مسألتان مختلفتان. والهدف من المؤامرة في المجال الاقتصادي غالبا ما يكون هو التخلص من تراكم التناقضات؛ فالنظام الاقتصادي الرأسمالي كلما تراكمت فيه مشكلات عويصة، احتاج إلى صدمة للتخلص منها، إما بطريقة عنيفة كاختلاق الحروب أو بطريقة أقل عنفاً، كما الأزمة الحالية.
ومن هنا، فالمؤامرة إنما تفتح المجال للخروج من الأزمة، وليست بحد ذاتها خروجا من الأزمة. ونحن تعلمنا من التاريخ أن الرأسمالية لا تلجأ إلى المؤامرة بالضرورة لتجاوز تناقضاتها، بل هي حين تصل إلى قمة أزماتها تعمَد إلى تحطيم القيمة Détruire la valeur، وذلك لإيجاد ربح ذاتي جديد. إن تراكم رأس المال يجعل المنافسة أكثر شدة، وهذا يؤدي في النهاية إلى تراجع الأرباح حتى تصل إلى درجة الصفر، وهنا يتم إعلان دخول النظام الاقتصادي في أزمة. ومثال ذلك أن الأسواق المالية بقيت تتطور منذ الثمانينيات بشكل مهول، بعد أن غدت الرأسمالية غير قادرة على إنتاج قيمة حقيقية في الاقتصاد الواقعي، فتم اللجوء إلى خلق قيمة افتراضية من خلال الأسواق المالية، هذه الأخيرة بنفسها وصلت إلى قمة تناقضها، والتي برزت بشكل رئيس في أزمة 2008.
والأزمة الحالية دفعت الفكر الرأسمالي إلى التفكير في جعل هذا الوباء مناسبة لخلق قيمة جديدة، وبطبيعة الحال كان طبيعيا التفكير في خلق لقاحات مضادة لهذا الفيروس، ودفع الناس إلى شرائها إما بتخويفهم أو بفرض ذلك بالقوانين، حيث سيصبح تلقي جرعات من هذه اللقاحات واجبا على كل فرد إما بالقانون أو بإكراه غير مباشر من خلال المنع من السفر أو الولوج إلى بعض المرافق العامة إلا بعد تقديم شهادة التلقيح.
وخلاصة الأمر أنني لا أعتقد أن هناك مؤامرة تهدف إلى تحقيق مكاسب اقتصادية هي التي كانت وراء اختلاق هذا الفيروس. خلافا، لذلك، أعتقد أن هناك فرصة تاريخية للرأسمالية لتحطيم القيمة واستئناف الانطلاق لتحقيق أرباح جديدة.
وفي خاتمة هذا الحوار، أريد أن أقترح بعض الكتب، التي أراها ستكون معينة على فهم الكثير من الأفكار التي عبرتُ عنها في هذا الحوار، وهي:
ـ La monnaie- un enjeu politique
ـL’introduction a Antonio Gramci
ـ l’Illusion Economique, par Emanuel Todd
وهذه الكتب كلها تتواجد بالسوق المغربية، ومفيدة في فهم الميتابوليتيك والهيمنة والهيمنة الثقافية المضادة، واكتساب أدوات فكرية تسمح للمرء أن يفهم قضايا السيادة والهيمنة السياسية والاقتصادية.
1xbet casino siteleri bahis siteleri