القرآن وتطور النقد العربي القديم

1٬014

إن النقد في حقيقته تعبير عن موقف كلي متكامل في النظرة إلى الفن عامة، يبدأ بالتذوق، أي القدرة على التمييز، ويعبر منها إلى التفسير والتحليل والتقييم، كما أنه يعتبر تمحيصا للعمل الأدبي بشكل متكامل، حال الانتهاء من القيام به، أما النقد الأدبي، فهو تفحص الأعمال الأدبية، والكشف عن مواطن الجودة والرداءة فيها، والناقد هو الذي يبحث عن مكامن القوة والضعف في كل عمل أدبي.

أحدث القرآن الكريم أثرا كبيرا في النقد؛ حيث كان العرب في الجاهلية أشد الناس فصاحة، وأكثرهم نظما للشعر الجيد والموزون والمنظوم، بشكل رائع. كان الشاعر يفضل على الخطيب، ويعتبر لسان قومه، إذا مدح جماعة رفعهم، وإذا هجاهم جعلهم أذل الناس، فكان الشعر من بين المواضيع الهامة التي يتداولها الناس آنذاك، وكان النقد انطباعيا بسيطا، ساهمت في ظهوره اللقاءات الشعرية التي كانت تعقد بالأسواق الأدبية، كعكاظ، وذي المجاز، حيث يجتمع الشعراء ويتنافسون ويعرضون أجود أشعارهم، وكان الشاعر النابغة الذبياني حكما عليهم آنذاك.

مع مجيء الإسلام، أخذ النقد طريقا آخر غير الذي كان يسلكه في الجاهلية، فقد تميزت هذه المرحلة بنزول القرآن الكريم، الذي أخذ مكان الصدارة، لكونه النص الأدبي الأول لهذه الأمة، والكتاب المبين المعجز، بالإضافة إلى أنه وحي السماء، فقد أثار منذ اللحظة الأولى لنزوله حركة فكرية جديدة عند العرب. ودعاهم إلى الالتفات لما جاء به من جديد في أساليب التعبير والبيان، وعلقت أفئدتهم وأسماعهم بما تضمنه من كلام رائع، فلم يسعهم إزاءه إلا التسليم بروعة أثره في النفوس وفي العقول، فمن قائل أنه سحر، ومن قائل أنه شعر، ومن قائل أنه أساطير الأولين، هذا لأنه أضحى في الرتبة الأولى، وصار الشعر بعده، ذلك لأن الشعراء انبهروا بروعة بيانه، فمنهم من تفرغ لخدمته، ومنهم من صار توجهه الدفاع عن الدعوة الإسلامية، ومن بين أمثلة الإعجاب، نجد قول عتبة بن ربيعة، حين سمع من رسول الله ﷺ الأجزاء الأولى من سورة فصلت، ثم عاد إلى قومه فسألوه: “ما وراءك يا أبا الوليد؟” قال: ورائي أني سمعت قولا ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة، يا معشر قريش، أطيعوني وخلوا بين الرجل وبين ما هو فيه، وقول الوليد بن المغيرة: والله إن لقوله لحلاوة، وإن أصله لغدق، وإن فرعه جناة.

منذ بدء الدعوة الإسلامية برزت ظاهرتان متصلتان بالحياة الأدبية:
أولهما؛ نزول القرآن الكريم وتصدره على كل ما أنتج العرب من أدب وبيان.
ثانيهما؛ ظاهرة الإعجاز البلاغي وقيام الرسالة السماوية عليه.
لذلك ركزوا على دراسته دراسة نقدية تعتمد على البحث في الأساليب، والتعمق في أسرار البلاغة، والموازنة بين ألوان الكلام الرفيع. وبدأت مدرسة الرسول ﷺ تترسم خطاه في التفسير، وتحفظ ما نقل عنه وترويه، وقد تتزيد فيه بحذر، في شرح لفظ الغريب، أو بيان حكمة أو موعظة، وقد نشأت طبقة القراء في صدر الإسلام، تحفظ القرآن الكريم وتلم ببعض التفسير على النحو السابق، ثم يبعث بها الرسول صلى ﷺ إلى القبائل يعلمونهم القرآن ويفقهونهم في معانيه. وقد انقسم الصحابة إلى قسمين: متحرج من القول في القرآن الكريم، كأبي بكر وعمر وغيرهم، والقسم الثاني الذين لم يتحرجوا، وفسروا القرآن حسب فهمهم من الرسول ﷺ، بالاستعانة بالشعر العربي، وكلام العرب، ومنهم علي ابن أبي طالب، وعبد الله بن عباس.

تتجلى أسباب تأثر النقد بالقرآن في تجاوز لمستوى العرب في الفصاحة والبيان، مما جعلهم يبحثون عن مكامن الجمال فيه ودراستها، مما دعا إلى البحث عن أدوات النقد لاكتشاف أسرار الجمال في هذا الكتاب المعجز، لذلك نشأت مجموعة من العلوم من بينها النحو، الذي يختص بضبط قراءة القرآن الكريم وكذلك البلاغة، ولا يتوقف عند هذا الحد فقط، بل لا زال يمد الباحثين بالعديد من العلوم المتجددة، فهو بحر لا ينفذ.

لقد أدى هذا الاهتمام الكبير بالقرآن الكريم إلى الإقبال على دراسته بجانب اللغة والشعر، بهدف التفسير من جهة، ثم التنقية اللغوية من جهة أخرى، فبدأت حركة التأليف، واحتدمت المعارك بين الشعراء واللغويين أنفسهم، وذلك يتضح من خلال جانبين: الأول: يتمثل في الدراسات اللغوية حيث أصبح القرآن الكريم بفضل تطورها محط اهتمام العرب؛ إذ حرصوا على الحفاظ على اللغة العربية رغبة في حفظ لغة القرآن الكريم، كي يظل مفهوما ومقروءا ومتدارسا، ومع مطلع القرن الثاني الهجري، انتشرت اللغة العربية واتسعت رقعتها، وزاد الإقبال على دراسة القرآن واللغة والشعر، فكان لهذا التطور تأثير كبير على الدراسات اللغوية والنقدية.

ويعتبر هذا الكتاب المعجز، من الدوافع غير المباشرة في اهتمام الوافدين الجدد باللغة العربية، فالقرآن كتاب العربية الأول، ودستور الإسلام الجديد، والعربية لغة المسلمين الفاتحين، ولغة الأدب والكتابة والسياسة والحكم، وللقرآن ما يعين على فهمه: كالتفسير ومعرفة الغريب والإلمام بالنحو والشعر وغيرها. ومع اتساع الحركة الفكرية والتداخل بين الثقافات، أقبل الفرس على تعلم القرآن وعلوم العربية، وبدأ العرب يتطلعون إلى ثقافة الفرس، فنتج عن هذا التداخل أن شابت اللسان العربي بعض الشوائب الغريبة: كالتحريف، والتداخل في بعض الألفاظ الأعجمية، وكنتيجة لهذا الاختلاط، احتدمت المعارك اللغوية بين الشعراء واللغويين، وبرزت كذلك حركة التنقية اللغوية، إلى جانب قيام مجموعة من العلماء بوضع القواعد والأصول، لضبط اللغة وقياسها، وفهم ما جاء منها عن طريق الشرح، ووضع المعاجم التي ظهر منها في هذا العصر كتاب العين، للخليل ابن أحمد الفراهيدي.

والثاني: يتمثل في الدراسات الشعرية حيث كان الشعر في العصر الجاهلي يحتل المرتبة الأولى، ويحظى باهتمام الناس آنذاك، حيث بلغت مرتبة الشاعر مراتب الزعماء والرؤساء، إذ كانت تبشر بمولده القبائل، وتستند إليه في الدفاع عن نفسها، فهو لسانها الناطق باسمها، يرفع من شأن من مدحه، ويذل من هجاه، يثير الحماس في النفوس فتندفع للقتال أو تقبل على الخير، لكن مع نزول القرآن الكريم تغيرت الموازين، ونزل الشعر عن مرتبته، لأن بيان القرآن كان معجزا، وصار بعد ذلك الشعر عونا للناس على فهم القرآن، فقد قال ابن العباس: “إذا صعب عليكم شيء من معاني القرآن فالتمسوه في الشعر، فالشعر ديوان العرب.”

انطلقت بذلك حركة التفسير مستعينة بالشعر، وتقدم الزمن، وخرج الشعر والقرآن كلاهما من بيئتهما وسط الجزيرة إلى أوطان غريبة، لم يفهم أهلها القرآن ولا الشعر، فظهر مجموعة من المفسرين والرواة يفسرون القرآن ويجمعون الشعر ويشرحونه للناس، ومن بينهم: حماد الراوية، وخلف الأحمر، وأبي عمر ابن العلاء. وكانت هناك حلقات النقد في قصور الخلفاء، يتعرض فيها الشعراء ممن حضر المجلس، أو الخلفاء أنفسهم، وعرفوا بالبراعة في نقد الشعر، وكان الناس يهتمون به في صدر الإسلام والعصر الأموي ليستشهدوا به على القرآن.

أما في العصر العباسي، فقد امتزج اللسان العربي بغيره، وظهرت بعض اللهجات العامية وكان الاستشهاد بغريب الشعر يدعم بالآيات القرآنية بالموازاة مع تأثر حركة النقد بالدراسات القرآنية، برزت حركة إنشائية في صناعة الشعر، ذلك أن الشعراء المحدثون والكتاب بدأوا يجددون في الشعر والكتابة، لكن باللجوء إلى الصنعة والتنميق، والاستعانة بالبديع وضروب الصناعة اللفظية والبيانية.

هكذا كان للقرآن الكريم دور في تغيير مسار النقد، كما غير أسلوب الحياة، وحظيت اللغة العربية بمكانة عالية بفضله، فقد تكرر ذكرها في العديد من الآيات في القرآن الكريم ومنها قوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} وهذا ما جعلها أفضل اللغات إلى يومنا هذا، وبرزت مجموعة من العلوم التي أصبحت في خدمتها، من نحو وبلاغة، إلى جانب ظهور العديد من النقاد، وتأليف كتب نقدية تدرس القرآن وتهتم به من مختلف المناحي، وصار الشعر في خدمة الدعوة الإسلامية وتفسير القرآن ومدح النبي ﷺ، كما استمر ذلك في العصر الأموي مع الخلفاء والولاة والحكام، وظل القرآن الكريم في مختلف العصور المزود الرئيسي لشتى العلوم، واحتل الرتبة الأولى في الدراسات النقدية.

1xbet casino siteleri bahis siteleri