حقيقة مبهمة!

بهتان خلف كذب يحاول تبرير اختلاقات وافتراءات أجمعت الأغلبية أنها حقائق فصدق الجميع ذلك وأطلق عليها اسم حقيقة على مر العصور. مفهوم الحقيقة في حد ذاته يعني ما أقر في الاستعمال على أصل وضعه، وهو ما يصير إليه حق الأمر ووجوبه، أي ما تتفق عليه الأغلبية التي هي عبارة عن بني بشر لم تختبر في الحياة إلا القليل، ولم تعلم من أسرار الكون إلا الضئيل، إضافة إلى أن بني آدم بالطبع خطاء فكيف يمكن اعتبار أن ما نجمع عليه حقيقة؟ ما المعيار والمرجع الذي نعتمده لندرك أن دراستنا حقائق أم ضرب من خيال؟ ما مدى صحة ما نسلم به جميعا ونعيش عليه كحقيقة؟

منذ القدم، عصرا بعد عصر وجيلا بعد جيل، اكتشفنا أن ما كنا ندركه ككنه للأشياء حتى أمس، وما كنا نعرفه كأصل للحياة، للوجود، للدراسات وللكون هو عبارة عن تجاوزات اجتماعية، عن أخطاء علمية اقترفها أحد العلماء خلال دراسة ما، بدءا من كروية أو بيضوية الأرض وصولا إلى نظرية التطور بين العلم والخرافة، نظريات عشنا وكأنها مسلمات، ففجعنا باكتشاف أنها مجرد دراسات باتت خاطئة لا أساس لها من الصحة بين عشية وضحاها، كل ذلك يجعلنا في موقع تساؤل واختلاف، هل ما نحيا بينه اليوم من معلومات هو صواب واقعي أم سنستيقظ يوما على خبر مفاده أن كل شيء إفك وبهتان.

الحقيقة في المجال العلمي شيء نسبي قد تكون صحيحة اليوم لتلبث خطئا بعيد الصحة في اليوم الموالي. أما على المستوى الاجتماعي فلا مجال للحقائق بين بني جلدتنا، ولم تكن منذ الأزل، فكلام كل منا وإن أقسم على أنه كنه خالص لا بد وأنه مغلف بإضافات وزيادات خاصة.

لطالما لم يكن للحقيقة وجود وزاد انعدامها في وقتنا الحالي، أخطاء علمية وأخرى مهنية، كل ذلك يمكن قبوله؛ فالعلم مهما ظن الإنسان أنه بلغ أقصاه يبقى لا منتهيا، ذلك أن العالم هو الخالق وحده، لكن ما لا يمكن قبوله هو تلك العتمة الساخرة التي أصبحنا نتيه فيها ابتغاء مرضاة الآخرين، هي تلك الدوامة التي أضحينا ندور فيها جميعا تحت مسمى موضة ونمط عيش.

مقالات مرتبطة

المقصود بذلك أن الإنسان أصبح جزءا لا يتجزأ من تمثيلية حقيرة صنعها هو عينه، يتقمص يوميا عدة شخصيات، ويلبس جملة من الأقنعة لا تمت لحياته ووضعيته بصلة، فيصبح دمية سيرك يحرك المجتمع خيوطها كيفما شاء. يقضي أربعة وعشرين ساعة وهو يعيش حياة الآخرين، حياة أشخاص قد لا يكون لوجودهم واقعا، إنما مجرد أوهام صنعها تجار مواقع التواصل الاجتماعي “المؤثرون”، فتسابق الجميع لامتلاك تلك الحياة المثالية المنظمة الخالية من الشوائب، وتسارع الكل لصنع تلك النسخة الغنية السعيدة الهنيئة من الحياة، ظانين أن احترام الإنسان للغير يتأتى من كونه يشبهه بل ويمثله حق الامتثال، متناسين أن التعايش ومبدأ تقبل الآخر كان من أول الأسس التي قام عليها المجتمع.

ليست المتعة في حفظ تصرفات ومواقف مشهور ما وامتثالها في الحياة كمسلمة، ولم تكن الروعة ألبتة في امتلاك آخر صيحات الملابس والهواتف والسيارات للتفاخر والتباهي بالغنى مع خلفية سد ديونهم طوال الدهر. ضلال مغلف بجهل تشبعته أمة بأكملها إلا من اهتدى سبيل الرشد، فأضحينا وجوها لعملة واحدة، سائرين على نفس النهج، مقلدين لا نفقه قولا أو علما سوى التجارة في أفكار البشر وجعلهم لوحة من لون واحد.

لنفسي ولكل ضال تشبع مبادئا منسجة حق النسج من طرف مسوقي الأفكار الزائفة والحياة الممتعة عن طريق الكذب والخداع. هل نعتقد فعلا أن هؤلاء الناس يعيشون حياة مثيرة لا تشوبها شائبة؟ نعلم جيدا أن في مواقع التواصل الاجتماعي يظهر مشاهير مواقع التواصل الاجتماعي ما يرغب المتابعون مشاهدته فقط، فالعديد من تلك المنشورات -إن لم نعمم القول-  تتطلب التنسيق والتخطيط بعناية فائقة، فلماذا نجعلهم قدوة لحياتنا؟ لماذا نحاول التشبه بهم ومتابعتهم بالساعات، متناسين حياتنا الواقعية؟

تظهر الإحصائيات أن نسبا كثيرة من مرضى الضغط والاكتئاب، بل حتى أعدادا هائلة من محاولات الانتحار كان سببها المقارنة بين ما يشاهده جيل الألفية وما يعيشه حقا؟ فعندما نتصفح الكثير من الصور والفيديوهات لا يسعنا إلا الشعور بالنقص والضعف أمام آخرين حققوا أشياء ما زلنا نحلم ونسعى لتحقيقها؟

بما أن الأمر كله مجرد وهم فلنحصل على هدنة ونبحث عن نقاط قوتنا ونطورها لنصل إلى احترام الذات، إدراك أهمية الوجود والاستفادة من الحياة الواقعية بل حتى الوصول إلى ما ينشرونه كل لحظة ويوهمون أنفسهم بعيشه فعلا. فلنحارب تلك الحقائق الزائفة.

1xbet casino siteleri bahis siteleri