في عبق الذكريات

844

حياتنا عبارة عن جدار سميك تصنع أعمدته طوبة طوبة، جملة من الذكريات تتجمع حبة حبة، تشكل فردانية كل ذات، حتى لو تشارك الأفراد ذكرى معينة فوصمتها مختلفة داخل كل شخص، تخلق في دواخلنا أحاسيس ومشاعر تتقلب تقلب الفصول، فنحترق حزنا عند الأليم منها، ونبتهج فرحا عند السعيد منها.

مرورا بمراحل الحياة، طفولة، مراهقة، شباب، فكهولة، نقطف الذكريات من أرض الحياة زهرة زهرة، نستنشق عبقها مرة بعد مرة. تلك الذكريات التي تشكل هوية كل واحد منا، تجمع لحظات حياتنا كألبوم صور نرجع إليه بالتفكير إما شوقا وحنينا أو تحسرا وأنينا.

غالبا، باتباع طبيعتنا الإنسانية التي تميل إلى التذمر، فإننا كثيرا ما نكبح جماح أنفسنا، نوقف سير عربات حياتنا ونضيع أعمارنا ملتفتين إلى الماضي، معانقين الجراح ورافضين أن نتقدم في معركتنا، أن نعيش حاضرنا ونتأمل مستقبلنا، محطات هي نستقر عندها ونثبت ثبات جندي في أرض الحرب، كثبان من الهموم والأحزان تجرفها الدموع وتدفعها الأقدار إلى مقرنا عند كل خطوة، فتتشبث أقدامنا داخل تلك الدوامة ونغرق داخل هوة عميقة تقضي على كل جميل ليشغل مكانه الخبيث، ذكريات تقذفنا بآلاف الأميال عن الواقع، تسجننا داخل قوقعة صعب الخروج منها.

مقالات مرتبطة

رصاصات توالت في الماضي، أصابت الحاضر وأبت إلا أن تشوه المستقبل، ونحن داخل كل ذلك غارقين في خيوط كآبة وحزن متشابكين، لا نحن قادرين على الرجوع إلى الوراء وتغيير ما تم إتلافه، ولا بمقدورنا التقدم إلى الأمام، ماض غالبا ما يخلف فينا آثارا وندوبا تنعكس علينا سلبا، فرص تمر أمامنا مر السحاب، ننظر إليها من بعيد عابرة أمام أعيننا ونحن منهمكون في إعادة مشاهد الماضي مرات ومرات، مع تفصيل الأحداث وتركيبها من جديد.

ندرك جميعا أن ما يوقعنا هو في الحقيقة عصا نتكئ عليها للنهوض، وما يحبطنا هو في الواقع أمل يلوح إلينا لاتباعه، وكل ماض أليم هو فرصة وجب انتهازها لإعادة تأهيل النفس، لمراجعة الأخطاء وتصحيحها، لا التشبث بها، وهو ما قاله ﷺ: “كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون”، كما أن خالق البشرية جمعاء غفار شرط التوبة، فكيف لنا نحن أضعف الخلق ألا نتجاوز عن أنفسنا ونهجر آلام الماضي، معاناة لا تستحق العيش معها وتركها مرافقة لنا في خطواتنا، ماثلة أمامنا لحظات تلو الأخرى، بل كل المصاعب خلقت لتعاش وتنسى، تقتل وتدفن مع سبق الإصرار والترصد، مآلها الذهاب دون إياب، ومنحها التفاتة صغيرة لأخذ عبرة ودرس نستفيد منه، نتطور من خلاله، ننمو ونزدهر.

داخل كل نفس بشرية وبتأكيد علماء النفس يتواجد طفل صغير قابع في الركن المظلم منا، يقتنص الفرص، يهوى خيبات الأمل ويعشق الحواجز الكاسرة، ذاك الطفل الذي يتضخم ويتجذر في دواخلنا خيبة بعد خيبة، فيصبح مناه أن يسيطر خوفه كل السيطرة ويأخذ بزمام الأمور ليضحى رباط حياتنا بين يديه يقلبه كيف يشاء، وما يذهب به إلا للثغرات المكتئبة، فيسكنها ممانعا أن يغادر.

جميعنا في صبانا تمنينا أن نكبر سريعا، فلماذا عند نضجنا نتخلى عن حياتنا لمشاعر لحظية وذكريات عابرة؟ لماذا نفقد شغفنا لمجرد أحزان ستمر وتنتهي؟ لما ننسى أو بالأحرى نتناسى كل النعم لنواصل التذمر عن النقم؟ فعلا ثمة أحداث وذكريات لا ترحل، تمر السنين وتبقى عصية على النسيان، لكن ما مضى لن يعود أبدا، وقطار الحياة لا ينتظر أحدا، فلنعش حاضرنا ولنستفد من ماضينا لنهيء مستقبلنا.