وحي القلم

حين يولد المرء في هذه الحياة يبدأ بالتعرف عليها شيئا فشيئا؛ كلما كبر كلما أدرك أمورا جديدة وكأنه يسافر كل يوم ليكتشف عوالم لم يسبق له أن تعرف عليها. هذه الرحلة ليست كباقي الرحلات؛ إذ ينطلق قطار سفر الإنسان حين يخرج إلى الوجود في رحلة هي الوحيدة والفريدة من نوعها، حيث تصادفه العديد من المحطات الحافلة بمجموعة من الاختبارات والمطبات التي تزن وتفحص الإنسان وتبين أهليته وكفاءته.

تكمن مهمة القلم هنا كأول مخلوق خرج للوجود في تسجيل ما يحدث أو كتابة ما سيحدث وكأنه قدر المرء في هذه الحياة. كائن غير ناطق لا صوت له ولا حركة، بل أداة للكتابة أو وسيلة تساعد على نقل ما يرسمه الذهن أو التصورات والتمثلات الكامنة إلى الواقع، لتخرج منتظمة على شكل أسطر وفقرات وكلمات متراصة فيما بينها، الواحدة تكمل أخرى لتعطي معنى من المعاني المقصودة.

لنتخيل أنه لا يوجد قلم مطلقا، والمقصود هنا بالقلم جميع الوسائل التي تمكننا من نقل المعارف كتصورات ذهنية إلى كلمات وجمل في الواقع. أمام هذا الوضع سيظل المرء سجين أفكاره وتصوراته وآرائه. وحتى لو ناقشها مع الآخرين أو نطق بها فذلك لن يجدي نفعا. والأمثلة كثيرة في هذا الشأن؛ إذ بعودتنا إلى العصر الجاهلي نسمع أنه من العصور التي عرف فيها الأدب زخما وازدهارا كبيرا. لكن، حين نود البحث عن هذا الزخم والإرث الذي ربما نكون قد توارثناه نجد أنه قد ضاع منه الشيء الكثير والسبب الرئيسي هنا هو انعدام أو قلة التدوين؛ حيث نجد أن كل الأعمال الأدبية تلقى وتنتقد شفهيا ووحي أو سحر القلم غير حاضر هنا.

حين نتحدث عن العصر الجاهلي فنحن أمام أقوام يتحدثون بالعربية الفصيحة دون تصنع أو تكلف أو تعثر، مستعملين الكلمات الجزلة التي لم يظهر منها في يومنا الحالي إلا القليل، بالإضافة إلى نظم الشعر الموزون والمقفى والذي تتيه الآذان لسماعه وتنتعش االنفوس بمعانيه ثم الخطابة والقصص والوعظ والخطب الدينية. كل هذه الإنجازات في العصر الجاهلي لم تُنقل بشكل كلي؛ لأن القلم غاب فما توارثه الناس إلى يومنا هذا ظل راسخا وتم تدوينه وما لم يتوارثه الناس ضاع في مهب الريح.

حين نتحدث عن القلم فنحن أمام ساحر يخرج ما في ذهنك إلى الواقع ليخطه أمامك، ولا ريب أن جل الأمم والحضارات والثقافات لا نعرفها إلا حين نقرأ عنها، ربما تلك الأمم قد مضت وأتت بعدها أمم أخرى، لكن ما جعل آثارها صامدة هو سحر القلم. ندرك اليوم أن الشعراء في الجاهلية يصفون الجمل بسفينة الصحراء ويتحدثون عن الخيام والمحبوبة والفرس والحرب؛ ذلك لأن قصائدهم وما تحمله من معطيات جعلتنا نعيش معهم بعض جوانب حياتهم. لكن، إن غابت بعض الجوانب فهذا راجع إلى غياب القلم الساحر، فحين نطل على التاريخ نجد أنه كل ما دونه الأقوام والأمم والحضارات وما توارثته المجتمعات.

ينطبق هذا الأمر ينطبق علينا، فلكي تظل حياتنا وثقافتنا بعد رحيلنا لا بد أن نخلدها للأجيال القادمة. لكن، علينا أن نعلم علم اليقين أن القلم هو الوسيلة الوحيدة التي تخلد إرثنا اللامادي وتجعله يعيش إلى الأبد.

1xbet casino siteleri bahis siteleri