نسيم حريري يتسلل إلى باطنك كأنك لم تعش السلام يوما، صمت فاقع تراقبه يتشكل حولك قليلا قليلا، أنت لست نائما، ولم تستيقظ بعد، يتراءى لك السقف بعيدا، كأنها السماء فوقك، كأنك وحدك تراها، تستفيق أعضاؤك واحدا تلو الثاني، تسمع نبضك يرقص منتشيا بالبدايات. أنت وحدك قادر على بلوغ مراتب السلام، هذا الصباح الباكر، حيث يولد النهار من رحم الليل، تفتح الحياة لك نافذة جديدة، هذا الصباح، ذلك الصباح، كل صباح.
أستيقظ كأني قد ولدت من جديد، أفتح قلبي للصدى وهو يحدثني؛ “قم وانتصرْ لنبضك أيها الإنسان، قم واعبر وديان الحياة، واهزم الظلام فيك، هذا فجرك فاغتنمه، هذا شروقك فتوهج“.
هذا الصباح، لا ضجيج يشتتني، ولا شيء يجعلني أفقد رونقي، أنا سيد لحظتي، وواقعي المنتصر، أنا صباحي اللازوردي، أنا بعضٌ من الضوء الذي يكافح ليله الطويل.
هذا الصباح، ذلك الصباح، كل صباح..
أفتح عيني شغوفا، دون عجل، فأنا امرؤ يعشق التفاصيل، عاقلاً حد الجنون، أقدم لنفسي كوبا من الماء، أمس صدري لألقي تحية الصباح، أردد أذكاري الصباحية، وربما أنسى بعضها من فرط الانتباه.
في الفجر نبلغ من الجمال مبلغا لا مثيل له، نحن نفتح صفحةً جديدةً، نبدأ كأننا لم نكن، كأننا قد كنا أمواتا لفترة من الزمن. نحيا ونبعث من جديد، لعلنا نتعلم شيئا من رحلتنا، ففي الفجر نغدو أكثر صفاءً، أكثر نقاءً، أكثر جمالاً.
أتقبل هذا البعث اليومي، وأردد أسئلتي اليومية، أرى الجواب يراقبني من بعيد، وأنا أبحث عن أثر الفراشة في هذا اللوح الكبير، بعد زحام الأمس، ها أنا الآن أبلغ يومي التالي، فهل من عمل أشد ضرورةً من بلوغ نشوة النصر، النصر، السؤال، الجواب، التيه، من أنا في هذا الصباح بعد ليل فارغ، كنت فيه غائباً، حيا كميت، وميتٌ كحي.
هكذا نعيش الليل، ننام ونموت، نستيقظ فنحيا، دون أن نتأمل رائحة الحياة الذي تنبعث من الفجر، دون أن نراقب تفاصيل الروح الصافية فينا حين نبعث من جديد.
صوت الأذان يصدح في أرجاء الغرفة، أفتح نافذتي، فأرى السماء تستعد لانتصار النور الصباحي على ظلام الليل الطويل، هذه المعركة اليومية، الأبدية، هذا الظلام يهزم كل يوم، هذا السواد يفنى بضوء بديع يشتت غشاء الظلام.
أنا في الصباح عاقلٌ حد الجنون، مجنونٌ كأني لم أكن عاقلاً من قبل، فالسؤال أشد وضوحا في الفجر، والجواب يبدو لي أكثر شمولا من ذي قبل.
يدق صوت المؤذن كل بيت على حدة، ليهدي الحالمين ما تبقى من حكمة الفجر، فيوحي للسائلين أن طريق الجواب يبدأ كل صباح، فانتصر لفطرتك أيها الإنسان، واحمل عني أعباءك، ولتر بقلبك ما لم تره بعينيك.
ألقي عني كل أثقالي، ثم أفتح باب الصباح وأطلق قدمي للريح، فالزمن لا يكفيني لأبلغ نشوة النصر الصباحي، خطوات شيخ مسن تسبقني، كالعادة، هل هذا جدي ؟ ؛ في بيتنا البعيد هو من يفتح لنا بوابة الفجر، دون أن يدري أنه يفتح لنا درب الحياة.
وفي كل صباح صرت أرى جدي في وجه جديد، شيخٌ يهزم الطريق، ويعد خطواته واحدةً واحدةً، على مهل، هذا رجلٌ عاشقٌ بالتأكيد، رجلٌ يرى ما لا أراه. أمشي خلفه، دون أن يحس بي، كل صباح، حين تصمت الدنيا، وتتزين القلوب بالحب، كأننا قد ولدنا للتو. كأننا قد منحنا فرصتنا من جديد.
قطةٌ صغيرةٌ تلقي علي السلام، أبتسم كطفل ودود، وألقي لها تحية الصباح، مجنونٌ أنا في الصباح، عاقلٌ كأني لم أجن يوما. أنا أحب هذه الكائنات بديعة الخلق، ولا أمل من محادثها، ربما أجد فرصة مداعبتها، وملاعبتها، دون أن أكل، مبتسما كأني أحادث صديقا مميزا.
بعد الصلاة، ينهزم ظلام الليل وينتصر الصباح، وفينا تسمو أنوار الحقيقة، هذه بداية روحي من جديد، روحٌ وجسدٌ، نبضٌ قد ارتقى درجات جديدة،
أنا الآن بحرٌ، أنا الآن في الصباح شمسٌ، أنا الآن في الصباح حقيقي أكثر مما كنت عليه أمس. هادئٌ كالسلام، وديعٌ كالحب، ساكنٌ كالنسيم، أنا الآن في الفجر مطمئن كأني لم أكن محزوناً في البارحة.
هذا الصباح حقيقي، هذا الفجر عاطفي يجعلني كالحمام، أطير وأطير والسماء الزرقاء دليلي نحو الحقيقة. قلبي انتصر على عواطفه، وعقلي قد هدأت عواصفه، وصار من حقي أن أـتوهج، فهذا الصباح لي وحدي، قد بلغت فيه مرتبتي العالية، فليبدأ اليوم إذن، ولنتحدى الجميع، فمازلنا أحياءً، مازلنا أقوياءً.
صباح الخير يا أرض، صباح الخير يا ورد، صباح الخير يا قلب،
في البيت أجلس، أنا الإنسان الذي تأمل فجره وتذكر كل ذكرى حية، ولم يبق له من هذا الطريق سوى قلبه. أجهز كوب الشاي على مهل، أفصح له ببعض أسراري، وقد تراءت لي خيالات الماضي، التاريخ البعيد يريدني أن أتذكره، ربما أفتح كتابا يحملني إلى تلك الشواطئ المنسية. أفتح كتاب الله، في روحي نوافذٌ ستسقي وردها واحدا واحدا، وقلبي أيضا ينتظر، فلتشمخ فينا الحقيقة إذن. أقلب كتبي عني، فأجدني في بعض النصوص، أقرأ نصا ونصين، ثم أبدأ يومي المتعب من جديد.
في هذا الصباح، ذلك الصباح، كل صباح، أكون أنا أنا، حقيقيا، ناصعا كأني قد خرجت من رحم الحياة، والنسيم يرحب بي، والزمن ينتظر قليلا، فلا هو مسرعٌ في الفجر، ولا هو متباطئٌ، في الفجر تتراءى لك الحقيقة واضحةً، فأنت الآن في الفجر حر، قد بدأت يومك بالسلام، ورتبت فيك كل عشوائيتك المشتتة. أنت الآن في الفجر سالم من الخيبة، عزيزةٌ نفسك، مزهرةٌ روحك، ففي الفجر ينتصر السلام، وينسحب الظلام إلى ركنه، ليترك للنور ساحته الأبدية. فهذا فجري وفجرك، وهذا ظلامي وظلامك، وهذا نوري ونورك، هذا سلامي وسلامك. فالسلام على فؤادك والسكينة لروحك.