كل مشروع لا يقدم تنمية…مشروع دجال!

444

كان الخليفة العباسي المأمون يوما ينظر من شرفة قصره، فرأى رجلا قائما وبيده فحمة يكتب بها على حائط قصره. فأمر المأمون أن يُأتى بالرّجل، ولينظر ماذا كتب. فقبض عليه ونظر إلى ما كتبه، فإذا به يجد بيتين من الشعر يتمنى فيهما خراب قصر المأمون العامر.

ولما علم المأمون بما كتبه الرجل، سأله عما دفعه لكتابة ذلك، فقال له الرجل: -يا أمير المؤمنين، لا يخفى عليك ما حواه قصرك من خزائن الأموال، والحلي، والطعام، والشراب، والفرش، والأواني، والأمتعة، والجواري والخدم، وغير ذلك مما يقصر عنه وصفي، ويعجز فهمي. وإني يا أمير المؤمنين مررت على قصرك وأنا في غاية الجوع والفاقة. فوقفت مفكراً في أمري، وقلت في نفسي: هذا القصر عامر عال، وأنا جائع، ولا فائدة لي فيه، فلو كان خرابا ومررت به لم أعدم منه رخامة، أو خشبة، أو مسمارا، أبيعه لأتقوت بثمنه.

لذلك تتردد في ذهني عبارة منسوبة لأبي ذر الغفاري -رضي الله عنه- حيث قال: “إذا ذهب الفقر إلى بلد، قال له الكفر خذني معك”. هي عبارة تلفت النظر إلى الأضرار الجسيمة التي يولدها الفقر والفاقة المنتشرة في مجتمعاتنا، ظاهرة تزداد تفشيا وتأثيرا كلما تغافل المسؤولون عنها وسكتوا عن تناميها، وحيث إن التساهل في علاج تفاقمها يصبح الحال أشبه ما يكون بالانتحار البطيء.

وحيث إن الفقر لا يقتصر ضرره على الفقراء فحسب إنما يتجاوزهم مصيبا المجتمع بطبقاته وطوائفه، مما يزيد في تغذية الحقد الطبقي ويحفز روح الانتقام عند البؤساء وينمي رغبة المطحونين في السيطرة على أموال الأغنياء مهددين بذلك السلم الاجتماعي للبلاد وأمنها واستقرار المجتمعات من جرائم السرقة والاختلاس والرشاوي والعنف المدمر.

فكيف بمثل هذه الدنيا الواسعة بخيراتها أن تسوى في نظر فقير لا يملك منها قوتا يسد بها جوعه، أو لباسا يداري بها عورته؟! أي فائدة في نظره عن هذه الحياة المترامية أطرافها في العالم الغني بثرواته وهو محروم من أبسط مقومات العيش فيه بكرامة؟! إذ لا قيمة لأي مشروع أو مخطط أو برنامج لا يوفر له ما يطعم بطنه ويصون حقوقه مهما كثر الواعظون عن الآخرة والجنان ونعيمها، فلا يرى هؤلاء في هذه الدنيا غير التراب ولا يشغلهم فيها سوى غذاء وماء وكساء بعيدا عن زيف ادعاء الساسة ووهم وعود الحكام بالفسحة والرحابة والعيش الكريم، حتى أبدعت هاته الجموع المنسية بإنتاج وصناعة النكتة نتيجة شعورها بالجوع والفقر على حد تعبير كير كيغارد.

مقالات مرتبطة

هناك أوضاع لا يريد الإنسان أن يمر منها -حسب أنيس منصور- وهي أربع مراحل: مرحلة الغضب، مرحلة السخط، مرحلة التمرد ومرحلة الثورة. فذلك الرجل الذي تمنى خراب قصر المأمون حتى ينعم منه بخشبة أو بمسمار يبيعه ويتقوت بثمنه -وأمثاله كثر ويزدادون كلما ساءت الأحوال- هو ما يجب أن يشغل جميع طوائف المجتمع بمسؤولييه وأغنيائه وخبراء الاقتصاد والساسة في تقديم حلول سريعة وناجعة، تخلص المرهقين من أغلال البؤس والاحتياج وتُخرِج آمالهم من رُقعهم الضيقة، يتجنبون بذلك فيضان ثورتهم وتمردهم، حيث لن يبقى هناك أمان لصاحب مال أو أعمال، ولا صاحب ملك على أملاكه، أمام كم الجموع الجائعة والعاطلة التي ستكون كطوفان بشري يحدث فوضى وفتنة عظمى في البلاد وبين العباد، وحيث إن وجود الغنى الفاحش بجانب الفقر المدقع في المجتمع واحد يؤدي بذلك حتما إلى الانفجار عاجلا أو آجلا حسب علي الوردي.

يقول أنتوني روبنز في كتابه “قدرات غير محدودة”: “إن سلعة القادة العظام هي الأفعال وليست الأقوال” حيث إنه كل واحد من منصب مسؤوليته حول هذا الوضع مطالب على الفور  بالدراسة والفعل، باتخاذ قرارات، بالتفكير في مخططات يساهم من خلالها في تحويل القوة البشرية العاطلة إلى دائرة الإنتاج والعطاء في النسيج الاقتصادي لحل أزمة الاحتياج وتحقيق الاكتفاء الذاتي بعيدا عن تلك الدعوات التي تحبب الفقر إلى الناس، أو ترضيهم بالدون من المعيشة، أو تقنعهم بالهون فى الحياة، أو تصبرهم على قبول البخس، والرضا بالدنية، فهي في الحقيقة سوى دعوات فاجرة، يراد بها التمكين للظلم الاجتماعي، وإرهاق الجماهير الكادحة في خدمة فرد أو أفراد، كما عبر عنها الدكتور محمد الغزالي.

وخلاصة القول؛ إن كل مشروع مهما كانت مرجعيته أمام الناس الكادحة المضغوطة بقلة ذات اليد المقهورة مقابل جشع الساسة وقوة السادة وطمع الأغنياء وتسلطهم، وهو يحدثهم عن تنمية روحية ودينية دون أن يوفر لهم رغيفا واحدا في الحد الأدنى، أو يقدم حلولا فعليا تقلل من الاحتقان الاقتصادي والاجتماعي فهو بكل تأكيد مشروع دجال.. إذ كيف بإنسان يمكن أن يفكر في العبادة وفي ملء روحه باليقين والإيمان بخشوع كبير وباله مشغول طيلة اليوم كيف يملأ بطنه الفارغ، وكيف يطعم أولاده ويوفر لهم الأمان الغذائي والقوت لنفسه وأهله؟!

في دعاء سيدنا إبراهيم عليه السلام لربه في القرآن مناجيا: “رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ” [إبراهيم: 37] يرجو سيدنا إبراهيم ربه أن يرزقهم ولا يجعل بالهم منشغلا مهموما يحطم نفوسهم الفقر تحطيما، وحيث لا معاد لمن لا معاش له ولا آخرة لمن لا دنيا له!

في عبارة وجدتها تقول: “أن الجهل والمرض صنيعتا الفقر، ومتى اجتمع الثلاثة كفر الشعب بالدولة ومات في النفوس كل شعور عن تقديس الإله والوطن”.

1xbet casino siteleri bahis siteleri