هي قضية حية لا تموت – الجزء الثاني

ولأن المآسي مستمرة، وقد بلغت مبلغا لا يمكن السكوت عنه مطلقا، دعنا نتكلم مرة أخرى، لعل الكلام الكثير يجدي نفعا! هل دم الفيلسطينيين رخيص إلى هذه الدرجة؟

غزة تعاني ويلات الحرب والدمار منذ أكثر من أسبوعين. خبر غير صحيح، لأن غزة هذه قد عانت لأعوام طويلة من الاضطهاد، بشتائها البارد وخريفها الغائم وصيفها الحار جدا، الفصول كلها توالت، غير أن الربيع لا يأتي، فمنذ اليوم الذي رُفعت فيه الأسلحة أغلقت الوُرود على نفسها خوفاً، ورفضت الأزهار أن تتفتح.

دعني أصف لك الوضع هناك، وأخبرك كيف أن ثلاجات الآيس كريم -بهية المنظر- قد صارت مخصصة لحفظ جثث الموتى، الجثث التي تناثرت فوق الأراضي وتحت الركام وبجانب البنايات المهدمة، الجثث الكثيرة المختلفة أجناسها، ألوانها وأعمارها، لأطفال ونساء وآباء وأمهات ورضع وحيوانات وكل ما يمكن أن يخطر على بالك.

وإن المستشفيات قد امتلأت عن آخرها، ليس بالمرضى فقط أو المجروحين، بل بآلاف من النازحين أيضاً، بعقول ظنت المسألة عسكرية لا علاقة لها بالمدنيين ولا بالديار ولا بالمسشفيات ولا بالملاجئ. عقول استبعدت وقع الصواريخ على الأضرحة والمعابد والمخابز والمدارس والجامعات، لأنها تؤمن بالإنسانية، إنسانية يفتقر لها الصهاينة الأعداء. وبالرغم من ذلك، أبت المستشفيات الانسحاب من المعركة، رغم قلة المعدات، أبت التخلي عن جرحاها، وعن عائلات تبحث عن أفرادها بين المعطوبين والشهداء، أبت خيانة أطفال ارتجفت أطرافهم خوفا وصدمة لكنها سكنت في أحضان الأطباء والمسعفين والممرضين، لأنهم جسدوا لها الأمان الذي ظنت أنها فقدته ولن تلقاه في فرصة قادمة.

أجساد صغيرة مترهلة، لا يفقه أصحابها شيئا من الذي يقع، عادت أشلاءً منتشرةً في كل مكان، يستجمعها الآباء في أكياس بلاستيكية، ولا يتعرفون عليها إلا عن طريق فطرة الأبوة القابعة داخلهم.

لماذا لا أحد يحرك ساكنا إذن؟ لماذا هذا الصمت المطبق؟ أما عاد للناس عيون يلمحون بها الظلم والجرائم الشنيعة التي تُفرض على شعب كل ما يُريدُهُ حريةً وقدراً من العدل؟ أما عادت هنالك آذان يسمعون بها صيحات الصغار وآهات الأمهات وضجيج الأرواح وهي ترفع إلى السماء؟ أما عادت أصوات -رجال صُدمُوا وأُرهقُوا وأعياهُم تعبُ انتشال الجثامين الثقيلة- مسموعة؟ أما عادت هنالك أُنوفٌ تشتم روائح الجُثث الغابرة تحت الركام؟

الوضع بغزة قاس جداً، أناس طيبون يواجهون مرضى، حمقى، مخادعين، ظالمين، كارهين، إرهابيين، أعداءٌ لله وللرسل والدين، يقذفون المساجد والكنائس ودير الرعاية وكل ما لا يجب أن يُقذف. يضعون قواعد الحروب وهم بها غير آبهين، يُنادون في أزمنة مرت بمبادئ الوعي ويرفعون شعارات الإنسانية والتحضر، وهم عنها أشد البعد بعيدين.

تتمنى لو أن بإمكانك قلب الموازين، لو أن بإمكانك إمعان النظر داخل عيون الإخوة الفلسطينيين، لتؤكد بأن آلامهم التي طالت حان الوقت اليوم لتنتهي، وبأن الاستقرار الذي كان محالا يوما فوق تلك الأرض المباركة لم يعد أمنية بل بات قريبا حقيقيا.

لتنصُر أخاً وتُعلن حقاً وتُدحض باطلاً، باطلٌ يُدحض معه صوت الظلم، وصوت احتساء الدماء. لتُدفن تلك الوحوش فلا تقدر على النهوض من جديد، لتسقط وحوش متجسدة في دول بلا قيم، بمعتقدات قذرة، وقلوب عفنة.

لكن دعني أطبطب على قلبك، دعني أسكن هذه الجروح، دعني أسلك نهج الأنبياء وأتفاءل وأقول: أن ليس هناك داع بعد الآن لخوف أو هلع، لأن النصر بات قريبا، وتلك العروس التي أنسجت فستان زفافها بخيوط من كرامة، ستحظى بزفاف كبير عريض، ستلبس ذاك الأبيض الذي يليق بجمالها وحسنها قريبا، وسنزفها إلى الشاب الشهم القوي المجاهد الذي أحبته وأحبها، على موسيقى الشام وأهازيج المغرب ورقصات الخليج، سيحضر الألوف عرسنا هذا، جميع الشعوب العربية ستحضر، لأنها أخيرا اتفقت على أن تتفق، لأنها أخيرا علمت أن اليد الواحدة لا تصفق، فاتحدت.

وعرس آخر سنحضره، احتفال بالفتح قريب، احتفال يحضره جميع المسلمين، عرس مركزه الأقصى، بساحته الكبيرة التي أضاف الفتح عليها رونقا خاصا وابتهاجا وسعادة، وفي هذه المرة ستكون احتفالاتنا دينية، فنسمع ترتيلات لآيات النصر، وتكبيرات وتهليلات ونشهد سجدات طوال، ستذرف الدموع بفلسطين، وسيكون لها طعم آخر هذه المرة، طعم الفرح، فرح ذو عمر طويل جدا، لا يقارن بعمر الآلام الواهنة التي مرت.

ساحة الأقصى الحبيبة سترحب بجل المسلمين، الذين هم من كل البقاع آتين، سنشهد موسم حج إلى القدس، كالذي نشهده حول مكة، سنتبادل أطراف الحديث مع الأجداد وتلفنا قلوب الجدوات بالدعوات، سيلهو الأطفال من حولنا، وحينما يأتي موعد الغداء سنجلس إلى أرض الأقصى، ستشهد طاولاتنا أعدادا شتى من المأكولات، أطعمة شرقية لذيذة طازجة، وأطباق مختلفة من أقصى المغرب، إلى الشام، من مصر، وسوريا والعراق والأردن… وسيكون الحلا فلسطينيا بالتأكيد..

سنكون جميعا هناك وننظر إلى السماء الزرقاء الصافية حامدين، لله شاكرين، لأن النصر الموعود أخيرا بات حقيقيا، وقد شهدناه بأم أعيننا وما كان ربنا نسيا.

1xbet casino siteleri bahis siteleri