في جلسة بين القبور: معانٍ قد فُقدت!

واحدة من عاداتي أن ألج مقبرة ما وأجلس في زاوية تمنح منظر الصفوف المتراصة بانضباط، منظر يجمع بين الرهبة والرغبة، الرهبة من مشهد تخيلي وأنا نائم بين آلاف الجموع عاريا وقد أُذِنَ لهؤلاء الموتى من تلك القبور كأنها في انتظار أمر أو نداء استفاقة…والرغبة في مراقبة الزوار وأحوالهم بين من يبكي لوعة الفـراق وبين مُكـرَه على الزيارة لا بطلُ، وأنا غارق في صمتي بجانب قبر ما مفقود شاهده، وقد نُسي كأنه لم يكن.

المقبرة مكان مميز، محرك للوجدان، حيث تضع الحياة الزاهية بألوان مغرياتها خارج أسوار المقبرة، ثم تلج إلى هناك وقد أسبل عليك الصمت دثار الجمود، وسيل مـن الرغبات والتساؤلات قد أوقفه الزمـن وهو يتجمد أمام هذا المشهد الرهيب.

يقطع هذا الصمت الموحش أحيانا مشاهد متفرقة، كتجمع طيور مهاجرة في أحد الأيام وقد اتخذت من قبر متفرد على تلة تحيط به أزهار وأعشاب خضراء يانعة كقاعدة كلأ واستراحة قبل رحيلها..وكأنما بقية النائمين في القبور يغبطون صاحبه على تلك الزيارة، وقد تسمع أحد الزائرين الأحياء وهو ينظر لتلك التلة المطلة على منظر المدينة ثم يهمس لصاحبه بأنه يجدها مكانا لمبنى بانورامي قد يحقق آلاف الدولارات، على أن تُنقل المقبرة إلى مكان بعيد…بعيد عن المدينة وأنوارها، عن الذاكرة المباغتة، عن الأيام التي تجدد ذكراهم، حيث في المقبرة تتلاشى الروابط وتهترئ العلاقات وتتحل كالأجساد، وتظل المشاعر كخرقة باليـة تمزقها ريــاح النسيان!

تمر الساعات على الزيارة وأنا في ركن المتأمل، فتحضرني مقولة نابليون بونابرت :لا يعني الموت شيئًا، لكن أن تعيش مهزومًا وذليلًا يعني أن تموت يوميًا، يجب أن تحب الحياة وتعرف كيف تموت..لا أدري ما مناسبة تذكرها؟! لكنها استوقفتني أمام لحود الأطفال، وتلك الأسباب الغامضة في أن تخطف المنية طفلا ذي الربيع الخامس أو رضيع في شهره الثالث..هؤلاء لم يقدموا على الحياة وهزائمها وانتصاراتها بعد.. لم يذوقوا بعد طعــم الحياة فقادهم الموت إلى هذه اللحود!

ذات مرة شارك جلوسي هناك شيخ جميل الطلة هادئ البال وقد أخبرني مازحا: أنه ليس هناك أسوأ من الجحيم سوى أن يجمعك قبر واحد مع زوجة نكدية لا تتوقف عن السُّخط والصراخ..وجدت في كلامه بعض العزاء لكل الموتى المبتلين بأزواج قد دفعوهم بنكديتهم للجنون والموت، ولعل في صمت القبور نجاة وراحة لهم من ذلك النعيق.

قد يحدث أحيانا أن أجلس إلى جانب قبـر مـا أكثر من ساعة بعد غادره مشيعوه، ربما يدفعني الوفاء للموتى ومواساتهم في وحدتهـم تلك، يقال إن أقوى أنواع الوفاء تركـ مباهج الحياة وأنوار المدن ومغرياتها، وزيارة مقبرة..أمر غريب لدى الكثيريـن! وقد يزداد غرابـة إذا لم تكن تلك الزيارة لصديق أو قريب. يقول باسكال: إن الإنسان يجنح إلى الاستمتاع لينسى أنه سيموت..

لا أدرى ما الذي يدفعني إلى القدوم نحو أرض الموتى هنـا؟ ربما البحث عن معنى شيء ما في الحياة والموت، في الاستعداد لمقابلة الله، في جدوى النظام الروحاني داخل مجتمعات فقدت روحها ونظامها، في تلك القيم المفقودة: الوفاء، الانضباط، العودة إلى أصل العالم وبداية الحضارة..أشياء فقدت جوهرها وماتت أرواح معانٍ كثيرة قد دُفنت هناك: داخل زوايا المدينة!

 

1xbet casino siteleri bahis siteleri