بين أعمدة الرخام سؤال عن الوطن!

-كيف تنظر للوطن؟
-هاه! سؤال مفاجأ لا يظهر معناه إلا في مواقف الصراع والذوذ عن حرمة الأرض والعرض..هو الوطن.
الوطن بيت من أعمدة رخام صلب ضاربة في عمق التاريخ البشري، شامخة الطول، مزينة الزوايا بحضارات سعيدة، تعكس دفء الشمس فتلمع على أرجائه الزجاجية الشفافة، حيث تظهر البقع الداكنة بعد القِدم وهي تعتم الآن الرؤية حتى تحول بين الناظرين معرفة القادم من الأيام والأحوال.
الوطن تلك العلاقة التي تجعلك في عمق سواد تسخطك كالمحب لجوهره الصلب الذي ليس بيده حيلة في تغييره، حيث ولدت كيفما كان أصلك شرقيا أو شماليا أو جنوبيا على واحد من أسِرة هذه الأرض، ثم صرخت صرختك الأولى تحمل فيها مزيجا من الألام والآمال، فتخيب خلال رحلة نضجك كثيرا وتسعد أيضا بما قد أنجزته على خريطة طريقك.
هذه العلاقة الراسخة التي وإن لم تصرح بها علنا، وإن كانت في ذراتك المتفتقة سُخط لِما آلت إليه أيامك وأنت تخوض في غمار لُججهِ العظيمة، ستجد نفسك في موقف ما مُدافعا عن عرضه، وإن صرحت لرفاق أنك لن تعود إليه مرة أخرى، حتى وأنت في غربتك ومنفاك، وإن حبست أنفاسك من أن تطلق لسانك في الدفاع عن أرضك، وأصلك وعرضك، أمام الغربان التي تحوم حول الجيف تسخر منه جِهارا، ستجد ضميرك المستتر يجلدك بسياطه مرات عدة، كلما خاب صوتك في هذه العلاقة ستجد نفسك منكبا على وجهك تبحث في تلك القطعة عن وجوه ألفتها، وحنين يدفعك أو يجرك إلى ذلك البيت المنتصب بأعمدة رخامه الصلب الضاربة في العمق، الشامخة في الطول وهي تعكس بزواياها المزينة دفء الشمس فتلمع على أرجائه الزجاجية الشفافة.
الوطن في معانيه يظل سيدا مهما عاثت به مخالب سوداء، واستكانت لشراستها الكثير من الرقاب، وخرست من خشيتها الأصوات، يظل الوطن ينأى عن هذه الصورة الضيقة التي تصنعها هذه الأيادي المُحرِفة في أن تجعل من أعمدة الرخام سجنا رهيبا تختنق فيه الأنفاس وتختفي فيه الأحلام والآمال. يظل الوطن تركيبة غريبة وجميلة حقا عن نتاج علاقة ميثافيزيقية بين المحب الذي لا يصرح بمحبته وهو مرتبط بهويته حتى مماته، وبين الكاره لسواده الذي يعلن شعوره الكئيب مدويا، بعد أن يقذف نفسه سرا في أمواج المخاطر أو جهرا على تأشيرة مغادرة دون عودة بعيدا عن سمائه وأهله. حتى وإن جادت عليه الأيام، وتحسنت أحواله وابتسمت الدنيا في عينيه، يظل -وإن تحامل على نفسه مكابرا مدعيا النسيان- حنينه إلى ذلك البيت الشفاف الزجاجي بأعمدته الرخامية المزينة الباسقة في السماء، وهي تعكس بزواياها ذكرياته الدافئة من أشعة الشمس.
1xbet casino siteleri bahis siteleri