قبل أن نفكر في الإنجاب!

عندما ينخرط الإنسان ذكراً كان أو أنثى في علاقة زوجية؛ فإنه يتوق ويتشوق حماساً لكي يسمع كلمة “بابا”-“ماما”، يريد أن يُوَّرِثَ جيناته ويمد نسبه عبر الإتيان بمولود إلى الدنيا يحمل كُنيته ويشبه ملامحه ويفاخر به بين أقرانه وأصدقائه.

التناسل عملية بيولوجية ميكانيكية فرضتها الطبيعة على مختلف الكائنات الحية، وقدرها الله سبحانه عبر عملية الاتصال الجنسي بين الزوجين، من أجل بقاء النوع البشري والحيواني على الأرض وتحقيق مهمة الاستخلاف على وجه هذه البسيطة.

طافت في ذهني أفكار عديدة حول قضية الإنجاب، فوقعت علي أسئلة متعددة من قبيل: هل نمتلك تصوراً حول الأسلوب التربوي الذي يمكننا من تهذيب هذا المولود؟ هل المطلوب في الإنجاب الكثرة أم النوع؟ هل الإنجاب في عصر السرعة والمعلومات السريعة والصناعة المتقدمة يماثل الإنجاب في العصور الوسطى أو البدائية؟

إن أغلب من ينخرط في مؤسسة الزواج يفكر مباشرة في الخطوة الموالية التي تعد أحد أكبر الغايات من وراء التزاوج؛ ألا وهي الإنجاب. فإذا سمع بعض الناس مثل هذه الأسئلة تُطرح قد يعتبرونها حذلقات فارغة أو تفلسفا عقيما أو تعقيدا لا طائل من ورائه، لكن المتأمل في أحوال الناس في هذا الباب ومعاناتهم الشديدة مع أبنائهم؛ يجعل المرء يتأمل ويفكر ملياً في عملية الإنجاب هذه، فمن زاوية نظري فكرة ضخمة كهذه تحتاج إلى تأمل وتفكر قبل الفعل.

تختلف دواعي الناس من وراء إنجاب الأطفال؛ فمنهم من يفعل ذلك إشباعاً لغريزة الأمومة والأبوة، ومنهم من يفعل ذلك لكي يبرهن على خصوبته وفحولته، وهناك من ينجب بغرض أن يقوم هؤلاء الأبناء بمساعدته على متاعب الحياة ورعايته حينما يصبح هرماً ويعجز عن الحركة، كما نجد من ينتظر من هؤلاء الأطفال أن يصنعوا له مجداً ويأتوه بمال الدنيا وزخرفتها، وهناك من لا غاية له سوى تكثير النسل والمفاخرة بكثرة الأولاد وطاعة الله تعالى.

قبل التفكير في الإنجاب نحتاج إلى مراجعة أنفسنا، لكي نرى أولاً قدرة ذواتنا على تحمل مشقة الإتيان بالولد لهذه الحياة، فالأمر قد يبدو سهلاً عند من يفكر تفكيراً سطحياً، فهذا الحيوان قد يضع من خمسة إلى عشرة أبناء دفعة واحدة ولا مشكلة لديه، لأنه في المبتدأ والمنتهى مجرد حيوان يأكل ويرعى في الطبيعة ولا يحتاج إلى رعاية نفسية ومادية واجتماعية.

لكن الإنسان رغم اشتراكه مع الحيوان في التوالد، إلا أنه يختلف عنه في حاجياته النفسية والمادية والاجتماعية التي ينبغي أن يلبيها ويشبعها، فهو بذلك كائن مركب وشديد التعقيد بخلاف الحيوان.

لكي لا يذهب ذهن القارئ بعيدا، لست ممن يسمون أنفسهم باللاإنجابيون، فهؤلاء ينطلقون من فلسفة عدمية ترى أن الإتيان بالولد إلى هذه الحياة عمل لا أخلاقي؛ لأنه سيعيش في كبد ومعاناة جسيمة، غافلين في قولهم هذا عن أن المشقة جزء من حلاوة هذه الحياة، وقد تبنى هذا الطرح عدد من الفلاسفة والحكماء قديماً، فمن هؤلاء “أبو العلاء المعري” الذي قال قولته المشهورة: هذا ما جناه علي أبي وما جنيت على أحد. معبراً عن استيائه من والده لكونه أتى به لهذه الحياة المليئة بالمعضلات والآلآم والصعاب.

يختلف عصرنا الحاضر كثيراً عن العصور السالفة التي كانت بسيطة في عيشها، فاليوم وبسبب التطورات الصناعية والتكنولوجية ازدادت في حياتنا مجموعة من الأشياء التي سهلت عيشنا من ناحية وعقدته من ناحية أخرى، فالهاتف وسيلة تواصلية ساعدت الناس كثيراً في عملية التعارف والترابط، لكنه في الوقت نفسه مكلفة مادياً، وقس على ذلك أموراً كثيرا لم يعرفها الأولون وعرفناها نحن اليوم.

 

مقالات مرتبطة

إن الابن الذي لا تحسن تربيته ولا تعتني به من خلال تقديم الرعاية الجيدة له في الجوانب المادية والنفسية والمعرفية، لا تشتكي منه مستقبلاً إن انقلب عليك وتنكر لك. فقد جاء رجل يسأل عمر بن الخطاب عن عقوق ابنه له، فقال له بعد أن سمع قصته: “قد عققته قبل أن يعقك وأسأت إليه قبل أن يسيء إليك.”

فمسألة إنجاب الأطفال سهلة في الفعل، يشترك فيها الإنسان مع سائر الحيوانات ولا تعدو أن تكون عملية بيولوجية عادية تقوم بها سائر الثدييات، لكن ما يترتب عنها هو المهم، فهذا المخلوق الذي وهبه الله لنا يتحتم علينا -اضطراراً- أن نربيه تربية حسنة، وهذا من حق الأبناء على آباءهم، وفي هذا الصدد أستحضر مثلاً يقول: “قبل أن تفكر في إحضار طفل جديد إلى هذا العالم، تذكر أنك غير مجبر على الإنجاب، ولكن إذا أنجبت فأنت مجبر على التربية.” وإذا أردنا أن نختصر هذا المثل بلغة فقهية نقول: الإنجاب فرض كفاية، لكن التربية فرض عين واجبة على كل إنسان عاقل، ومن تركها فهو آثم لا محالة لأنه مسؤول عن رعيته. وعند التأمل، نجد أن أي مهنة في العالم أراد الإنسان أن يمتهنها يحتاج إلى تكوين نظري ثم إلى تكوين عملي بالإضافة إلى تداريب، كل هذا بهدف أن يمارس الممارس هذه المهنة بإتقان واحترافية، لكن هناك مؤسسة يلجها الناس بدون تكوين أو معرفة مسبقة، هذه المؤسسة هي الأسرة التي تعتبر نواة المجتمعات.

إن بناء الأسرة عن جهل له عواقب على المستوى البعيد، فهذا يؤدي إلى إنتاج جملة من الكوارث والعاهات المستديمة، فمن أمثلة ذلك أن نرى أطفالاً محملين بأعطاب نفسية عميقة يصعب عليهم تجاوزها، والتي راكموها عن طريق سوء التربية والفظاظة في التعامل، وهذا يأتي من أشخاص فكروا في الإنجاب دون متطلباته من تربية ورعاية حسنة، فيصح أن نقول أن الآباء يحتاجون إلى التربية بدورهم؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه ولا يمكن للصنبور أن يسقي الأرض إذا افتقد الماء.

لا يمكننا طبعاً أن نعمم هذا الكلام، فهناك نماذج باهرة أنجبت وربت وأبدعت، لكن الغالب على بيئتنا هو بطون تدفع وشوارع تلتقط وتربي، لأن أغلب الناس لا يفقهون في طرق التربية ولم يكلفوا أنفسهم عناء الانخراط في دورات تكوينية أو قراءة كتب مفيدة في هذا الباب أو الاستفادة من تجارب الآخرين الفاشلة والناجحة.

يقول روسو، الفيلسوف التربوي: “من لايستطيع أن يقوم بواجب الأبوة، لا يحق له أن يتزوج وينجب أبناء.” قد يكون قول روسو صحيحاً إلى حد بعيد، فكم من شخص دخل في هذه المغامرة وآل أمره إما إلى فشل في علاقته الزوجية أو تسبب في أعطاب نفسية جسيمة لأولاده بسبب سوء تربيته وإهماله العاطفي، لذلك يؤكد روسو على أهمية النضج وحس المسؤولية لدى الأبوين، وغياب هذين الأمرين يؤدي حتماً إلى إنتاج نماذج غير مرغوب فيها تفسد في المجتمع ولا تصلح، وتهدم ولا تبني.

ومن هنا نجد أن أغلب المجتمعات الفاسدة التي تنتشر فيها السرقة والإجرام وأنواع من الأخلاق الذميمة، يكون سببها نابعاً من الأسرة التي لم تعط الرعاية اللازمة لأبنائها، فهذه الأخيرة مؤسسة لها دور مركزي في المجتمع وهي تتفوق على المدرسة لكون الطفل يكبر في كنفها ويترعرع داخل دفئها.

ما أريد قوله هنا باختصار؛ هو أن الإنجاب عملية تحتاج إلى تفكير وحكمة في التصرف، خاصة مع الظروف والتحولات الكبرى التي يعيشها إنسان الألفية الثالثة، فقد نص عدد من المتخصصين في حقل الذكاء الاصطناعي أننا لن نعود في حاجة إلى البشر لأن الآلة ستقوم مقامه، رغم أني غير متفق مع مثل هذه الأفكار لكونها نابعة من نظرة مادية محضة، وتسعى إلى محو الوجود الإنساني من الطبيعة، وهذا يضرب في صميم المهمة الاستخلافية التي كلفنا بها الله سبحانه.

إذا حاول الإنسان أن ينمي ويطور شيئاً من ثقافته الأسرية في طرق التربية ومعاملة الأطفال؛ سيساهم في ازدهار المجتمع عن طريق إخراج أفراد صالحين مصلحين، ينفعون بلدهم وأمتهم كل من مقامه ومجاله، فلا يهم كم طفلاً أنجبت بقدر مايهمنا كم من صالح أخرجت، فالمولود الذي يأتي إلى الدنيا يشبه الورقة البيضاء التي تكون فارغة وناصعة البياض، والأمر يعود لنا لكي نخط على هذه الورقة ما نشاء، فلنحسن إذا الكتابة والرسم على هذه الورقة دون خدشها أو تمزيقها.

1xbet casino siteleri bahis siteleri