التربية والتعليم ودوامة التقدم والتأخر

مما لا شك فيه أن الفلاح يزرع ليحصد دوما، لكن دعنا نتساءل عزيزي القارئ، هل هذا الفلاح زرع وانتهى الأمر، أي أنه سيودع حقله حتى يرجع إليه في موسم الحصاد؟ للأسف، ليس هذا هو المعنى الحقيقي للفلاحة، إنك حين تزرع البذور فقد أخرجت مولودا جديدا إلى الحياة. وبطبيعة الحال هذا المولود يحتاج الرعاية والعطف والحنان. ليس هذا فقط بل التركيز التام على أمر جوهري وهو التربية، بوجودها نفتخر بكل جيل قادم ونطمئن للمسار الذي سيسلكه مستقبلا تماما كالفلاح الذي يعتني بالنبتة وهي تنمو، ويزيل الأعشاب الضارة من حولها ويحرص على أن تكون في أحسن الظروف. كل هذا من أجل الحصول على نتيجة جيدة حين يصل موعد الحصاد، هكذا وجب أن تكون التربية؛ زراعة القيم والمبادئ والسلوكيات الجيدة في الطفل وهو ينشأ شيئا فشيئا. تستوجب هذه التنشئة العديد من الأمور من بينها الحرص على تطبيق تلك القيم والمبادئ على أرض الواقع، فالطفل يرى ويسمع ويسجل كونه صفحة بيضاء تمتلئ بالتدريج كحال البذور التي لم تظهر بعد، لا بد أن تسقى كي تنمو.

إن الطفل يسجل كل شيء، حركات الأب والأم وكلامهما حتى لو تعذر عليه الكلام إلا ببعض الحروف المتقطعة، لذلك وجب على الأسرة أن تحرص كل الحرص على الالتزام بما وجب تلقينه لهذا الطفل بطريقة غير مباشرة.

إن هذا الأسلوب له آثار عجيبة على الطفل وتربيته، فحين يبلغ سنا معينا يبدأ الكلام ويقول أشياء تفوق سنه أو قد يفعل أمورا يقلد بها الراشدين، هنا تتفاجأ الأسرة بتصرفات ابنها لكن هذا له تفسير واحد وهو التسجيل الدائم لما يدور حوله من أحداث فإن كانت إيجابية أو سلبية سيقتنع بها. قد أسمي هذا التلقين غير المباشر أي أن الطفل يلتقط ما يراه في محيطه وهناك العديد من العائلات في بلدان أجنبية تتحدث مع أبنائها الصغار بأكثر من لغة واحدة فينشؤون وهم يتكلمون بلغات عدة.

هذا أمر طبيعي بالنظر إلى التنشئة الاجتماعية للطفل، فالتربية أول محطة يجتازها الطفل بعد خروجه لهذه الدنيا وهي التي تتحكم في بقية مسار حياته سواء كانت تربية إيجابية هادفة أم سلبية؛ ذلك أن هذا الطفل يعتاد على كل شيء يتلقاه كيفما كان نوعه ويؤثر ذلك عليه مستقبلا، وما تشبيهنا للتربية بعملية الفلاحة في بادئ الأمر إلا لتوضيح مسألة مهمة وهي أن الفلاح حين يعتني بالنبتة بعد عملية الزراعة يحصل على منتوج ذي جودة عالية، والعكس تماما حين يزرع البذرة ويتخلى عنها فإنه يجد منتوجا في غاية الرداءة تماما كما يفعل الآباء أثناء تربية أبنائهم، فهناك من يحرص حرصا شديدا على تربية أبنائه تربية حسنة تحمل في طياتها الأخلاق الحسنة والقيم الحميدة والسلوكيات الإيجابية وينشأ الطفل، بالإضافة إلى كل هذا، في وسط تتوفر فيه كل ظروف التربية الجيدة وفق المنهج القويم، فالطفل كما قلنا حين يصل إلى مرحلة معينة يبدأ باكتشاف المجال المحيط به ويسجل ما يدور حوله ويحتفظ به ليقوم به مستقبلا سواء أكان كلاما أو فعلا، لذلك فتصرفات الأسرة أمام الأبناء عامل غير مباشر لكنه مهم في تربية الأبناء.

مقالات مرتبطة

أما الصنف الثاني من الأسر فهي تشبه الفلاح الذي يزرع البذرة ويتخلى عنها، أي أن الأبناء في هذه الأسر يفتقدون إلى التربية وفق المنهج القويم وذلك راجع إلى عدة أسباب لا داعي أن نخوض فيها، لكن كنموذج للتوضيح، فإن الصراع الذي ينشأ بين الآباء أمام أطفالهم، حين يرفع أحد الطرفين صوته على الٱخر، ويمتد النزاع والصراع مدة كبيرة، فالطفل يثأثر مباشرة بهاته السلوكات ويكون الضحية الأولى نتيجة هذا الصراع.

هنا سننتقل إلى المرحلة التي تلي التربية وهي التعليم كلبنة أساسية في بناء الطفل وتنشئته أحسن تنشئة، والفرق بين التربية والتعليم هو أن الأول يكون بشكل عشوائي، أي أن الأسرة لم تخطط مسبقا لكيفية أبنائها بل تتم بطريقة عفوية وتلقائية، لكن التعليم عكس كل هذا تماما، إنه عملية ممنهجة مخطط لها مسبقا، فحين ينتقل الطفل من حضن الأسرة إلى جو المدرسة يجد عالما آخر غير العالم الذي عاشه مسبقا، حيث يتلقى المعارف والمعلومات بكيفية محددة ووفق مراحل تستجيب لقدراته ومهاراته، لكن التعليم كما نعلم جميعا لا يحرص فقط على التدريس والتلقين بل حين يدرس الطفل ويتجاوز المراحل التي وجب أن يتلقى فيها المعارف الأساسية يصبح طالبا يحتاج تكوينا يؤهله لولوج عمل معين، هنا ينفتح التعليم على كافة المجالات، فحين يصير الطفل شابا وقد تجاوز مراحل التدريس والتلقين بنجاح يتوجب عليه اختيار المجال الذي يميل إليه ويرغب في أن يتكون فيه، لذلك نجد الاختيارات تتعدد وتختلف: الطب، الهندسة، القانون، الشريعة، اللغات، التدريس، وكثير من المجالات التي يرغب الشباب في استكمال تكويناتهم فيها، هنا نحصل على طاقات متنوعة قادرة على رفع مشعل الغد وضمان التقدم والازدهار للأمة، وهذا حين نولي أهمية كبرى للتعليم كعملية أساسية في رقي وتقدم الشعوب، فتلميذ اليوم قد يكون طبيب الغد وبين يديه أرواح الناس وجب إنقاذها أو قد يكون مخترعا يقدم لأمته أهم ما وصلت إليه التكنولوجيا أو قد يكون أستاذا يدرس جيلا بعد جيل وهي المهنة الأهم، فالطبيب قد كان تلميذا والمخترع كذلك، لذلك مهما ذكرنا من أنواع الوظائف والمهن سنجد أن المقوم الأساسي لها هو التعليم، كونه الانطلاقة الأولى لضمان مستقبل جيد وكل مجتمع يحقق التقدم والازدهار اليوم فهو بكل تأكيد يرقى بالمنظومة التعليمية ويجعلها من أولوياته، لأنها السبب فيما وصل إليه وكل مجتمع متأخر يجعل التعليم آخر شيء يفكر فيه، فذلك السبب وراء التأخر قد يتلقى الطفل تربية جيدة حسنة لكنه لا يجد التعليم المناسب، هنا يبقى السؤال المطروح: كيف سنتقدم ونحن نهدم الأساس الذي يضمن لكل مجتمع تقدمه؟ لذلك فدوامة التقدم والتأخر متعلقة تعلقا تاما بقدر اهتمامنا بالمنظومة التعليمية.

عزيزي القارئ، اعلم علم اليقين أن كل مجتمع حقق الإقلاع في شتى المجالات كان قد بدأ بشيء هام وهو إصلاح المنظومة التعليمية أولا، بعد ذلك حقق له كل شيء يريده لا بد أن نكون كالفلاح الذي يعتني بالبذور هذا إذا أردنا الحصول على منتوج جيد.

1xbet casino siteleri bahis siteleri