حلم عجيب: بين زمن القوافل وزمن الابتكارات

تبدأ الحكاية في زمن عجيب لا يشبه بقية الأزمنة، وفي مكان لا كباقي الأمكنة، سحر وغرابة الزمان والمكان سيوحيان لنا بشخصيات وأحداث غير مألوفة، لكن في الحقيقة الأمور مختلطة ما بين الخيال والواقع، سفر فيه من العجائب ما لا نهاية، سنمتطي فيه ظهر الجواد هنا، ونقود السيارات الفاخرة هناك، إنها رحلة ما بين زمن وزمن، زمن حيث القوافل والخيام والألبسة الطويلة من القماش وحياة الترحال والتنقل، وزمن حيث السيارات الفاخرة والطرقات والوسائل الحديثة والابتكارات اللامتناهية.

ففي ذلك الزمن الغابر، سيخرج طفل غريب الأطوار إلى الوجود، لينعم في حضن أسرته الفقيرة، التي تصارع الزمن لتضمن لقمة العيش، طفل ترعرع ونشأ في صحراء قاحلة، كل يوم يفتح عيناه وهو في مكان جديد حيث يوجد مصدر العيش المتمثل في تلك البحيرة الصغيرة وبعض الأعشاب من حولها التي تقتاتها الماشية لتركب بدورها سفينة النجاة من الحياة ومشقتها، لم يكن بالأمر الهين على هذه الأسرة الضعيفة الترحال في كل فصل من مكان إلى مكان نظرا لصعوبة الأمر ومشقته، فالصيف حر وجفاف لا يطاق والشتاء برد قارس وأمراض لا تنتهي حدتها.

كان الطفل الذي بلغ سبع سنوات مشوش البال، تفكيره مشتت فيما يدور من حوله، رياح وعواصف شتى من كل مكان، والجوع هو الآخر يزعجه بين الفينة والأخرى، ويقاطع تفكيره وانشغاله بما يحدث، يخرج أحيانا من الخيمة ويقف أمامها ليتساءل: ترى إلى أين ستأخذنا الأقدار في فصل الشتاء القادم؟ هل سنبرح مكاننا، أم نحمل أمتعتنا كعادتنا بحثا عن مكان يقبلنا ضيوفا له؟

ما كان في ذهن الطفل سوى أسئلة لا جواب لها؛ فهو طفل في أذهان الجميع ولا حاجة لإشراكه في بعض الأمور والقرارات المتخذة كونها تكبره سنا وتفوق اهتماماته، لكن مهما تغاضينا فسنجيب عن كل الأسئلة، لأننا أمام موثق من الطراز الرفيع، لا يدع صغيرة ولا كبيرة إلا فحصها ومحصها ودقق فيها وأمعن النظر، تلك أفكار كل طفل ومن لم يلتفت لها سيصطدم بها في القادم من الأيام.

كل ما قيل لم يكن ببعيد عن بداية ظهور بعض علاماته، فالأب أحيانا حين يخرج من الخيمة يجد طفله يتمشى مشية ذلك الراشد الذي يبحث عن بعض الأفكار الضائعة منه، فيقف غير بعيد ليشاهد بإمعان ما يجري، والطفل يخطو خطوات نحو الأمام والوراء وهو يحك رأسه بإصبعه وملامحه تظهر كأن شيئا قد ضاع منه وهو يبحث عنه، وقف الأب مندهشا لا يتفوه بكلمة أو يتحرك من مكانه، فقط يكتفي بالمشاهدة، ولا ريب في ذلك، فطفل في عمره وجب أن يلعب ويركض ويضحك بعيدا عن هموم الحياة ومشاكلها والتفكير فيما يجري فيها.

وتابع الأب مسيره وهو في حيرة من أمره، أيحدث طفله ليعرف ما الذي يحدث، أم أن ذلك أمر عادي ولا حاجة لتضخيم الأمور، لكن الحيرة والشك أبيا إلا أن ينلن من تفكير الأب الذي عاد محملا بالأسئلة إلى زوجته يسألها ويقول: ألم تلاحظي يا زوجتي الكريمة أن ابننا تغيرت تصرفاته وأفعاله وكأنه صار شخصا آخر؟

إنه طفل يا زوجي العزيز

ردت الزوجة قائلة: إنه طفل يا زوجي العزيز، عليك أن تعلم هذا علم اليقين، فالأطفال قد تتوقع منهم أغرب الأمور والتصرفات، فهم يقلدون الراشدين والصغار وكبار السن، لأنهم نشأوا وترعرعوا وسطهم، كما أنهم يرون تصرفاتهم دوما، لذلك كن مطمئنا فطفلنا ذكي نجيب ولا بد أن تكون ذكيا لتفهمه جيدا.

ولا ريب في ذلك، فالأطفال عموما يتميزون بالنبوغ والذكاء إلا أن عدم الالتفات لقدراتهم يحول دون الكشف عن ذلك، فلدى كل منهم قدرات لا نهاية لها، بالإضافة إلى أنه سن التعلم والتلقي والاكتساب، تلك المرحلة هي ما يعدهم إعدادا جيدا نحو المضي في طريق التألق مستقبلا، فكثيرا ما نسمع عن أطفال لهم من المهارات ما لا نهاية لها؛ إما الحفظ السريع أو الحساب الذهني أو التفكير في أمور أشد تعقيدا والبحث عن حلها أو الابتكار والاختراع والإبداع.

هي العديد من الظواهر التي نصادفها في حياتنا اليومية، والتي تخص الأطفال الصغار في طور النمو والتعلم والاكتساب، وهذا ما قد نفهمه من جواب الأم رغم أنها تركت المجال مفتوحا على العديد من القراءات والتأويلات، لكنها في غالب الأمر تصب في كونها تؤمن بطفلها وقدراته ولا تجد في ذلك غرابة أو بعدا عن المنطق.

والجميل في الأمر أن الأب نفسه كان يقتنع بكلام الأم ولا يعارض أو يدحض ما ترمي إليه من وراء كلامها، رغم أنها لم تطلع على ثقافة الطفل أو لديها خبرة مسبقة في ذلك المجال، إلا أن تخميناتها في غالب الأحيان كانت صائبة كونها تحتكم إلى المنطق السليم، وهو المنهج الذي سلكته في تربية ابنها رغم قلة الإمكانيات وضعف الموارد وقلتها.

كانت متشبثة بفكرة تميزه وتألقه عن باقي الأطفال في مثل سنه، لذلك تشجعه دوما وتدعمه وتستمع لأفكاره ومقترحاته، ولم تشكل تصرفاته الغريبة أية حيرة أو شك لديها فأحيانا تجده يكلم نفسه بصوت عال وكأنه يناقش شخصا آخر، وأحيانا أخرى تجده شاردا وكأن العقل سافر لعالم آخر وظل الجسد أمامها وهذا يمثل لديها تلك النقاط التي تميزه عن غيره فلا يقلقها أو يزعجها ذلك بتاتا.

ربما قد نستغرب من كل ما سبق ونقف وقفة متسائلين، لماذا يكلم نفسه بصوت عال؟ أو بالأحرى لم يتصرف كهذا؟ إن هذا الاستغراب هو ما يجعلنا نستهزئ من كل طفل لديه ما يميزه ونسخر منه أو نقمع تفكيره ونضع له حدا لنجد بعد بضع سنوات مراهقا ثائرا حاقدا والواقع يستدعي منا عكس هذا تماما، فالطفل بنية هشة وزجاجة يسهل كسرها، ذلك أنه يخرج إلى الوجود فيجد عالما متشابكا متداخلا بنيته معقدة فتختلط عليه الأمور وتجتمع حوله التساؤلات لتضعه في دوامة لا يخرجه منها سوى أسرته، والأسرة هنا وجب أن تكون بمثابة جسر يمر منه الطفل لبناء واكتشاف نفسه، بعيدا عن كل ما يعرقل مسار تربيته.

فالتربية السليمة تنشأ بعيدا عن القمع الذي تفشى لدى فئة عريضة من الناس، وهو ما يضيق حرية الطفل ويحد من إمكانياته، فالإبداع والابتكار رهينان بتلك المساحة التي تقدم للطفل وهو في طور النمو، فلا بد من الإنصات لكلامه والإجابة عن جميع أسئلته وآرائه رغم كثرتها وعدم جدواها أحيانا، ثم دعمه فيما يصبو إليه أو يسعى لتحقيقه فهناك من الآباء من يسمع ابنه يقول “أود أن أصبح رساما كبيرا” فتراه يحضر له الأوراق والأقلام ليخط خربشاته الأولى ويحس أنه ليس من المستحيل أن يحلم المرء، وأن كل شيء على مقربة منه، فقط يربي تلك الإرادة والرغبة اللتان تقودانه إلى الوصول حيث يشاء، فالطفل يحتاج إلى من يوافقه الرأي لا من يعارضه، يحتاج إلى من يدعمه في قراراته ولا ينفيها، بل يقومها ويصلحها ويوجهها، تلك هي التربية.

فكلنا اليوم ننادي بحمل شعار التربية، ونتغاضى عن تربية أنفسنا على جعلها ثقافة فينا نمارسها مع أبنائنا داخل وخارج بيوتنا، فإذا أردنا جيلا مبدعا لا بد أن نترك له فسحة للإبداع والابتكار وإخراج الطاقات الكامنة داخله مع مراعاة الحدود التي وجب أن يتوقف عندها.

إن كل ما تحدثنا عنه يظهر جليا في أسرة ذاك الطفل، خاصة أمه التي تمثل النموذج الذي وجب أن يحتذى به، ذلك أنها أدركت الطريق الصحيح للتربية وفهمته بمعناه الحقيقي، فهي من شجعت ابنها على الابتكار والإبداع وكانت سببا في اكتسابه للعديد من المهارات والقدرات التي تفاجأ منها الأب وهي أيضا.

خرج الطفل من الخيمة في يوم من الأيام، حيث الغيوم تحجب زرقة السماء والرياح سرعتها تتزايد والبرق تظهر خيوطه على شكل صعقات كهربائية وصوت الرعد الذي يفزع القلوب ويحركها من مكانها، وهو مندهش شارد الذهن، فإذا بالبرق والرعد يتكلمان في لحظة واحدة حتى ظهرت دوامة من الريح تجمع الرمال وكل شيء، رأى الطفل هذا المنظر المفزع ففر هاربا، لكن سرعة الدوامة كانت أقوى وأشد سرعة فاقترب منه وجعلته داخلها.

فتح عيناه فإذا هو بعالم غريب عجيب، لا يدري أأسرع الزمن في خطاه أم أن الأيام اختزلت بعضها؟ عالم فيه من العجائب ما لا نهاية، قبل لحظات كان في صحراء قاحلة لا توجد فيها سوى خيمة أسرته والواحة والناقة أمامها، أما الآن فلا شيء من ذلك موجود في هذا العالم، الطرقات والأرصفة والبنايات الفخمة والسيارات المتطورة التي تسابق الزمن ليتمكن ركابها من قضاء مآربهم، وقف بضع لحظات من الزمن ليستوعب ما يرى ثم تحرك متجها نحو الأمام وهو يلتفت بمينا وشمالا، يرى ما لم يخطر على باله يوما.

وبينما هو تائه في هذا العالم الذي لا يدري كيف جاء إليه حتى فاجأه طفل آخر في مثل سنه ينظر إليه وهو الآخر مندهش في طريقة لباسه وعمامته التي توحي بانتماء لعصر مضى وانقضى، صارا ينظران لبعضهما لحظات من الزمن ليخرج الطفل الأول من حيرته ويسأل:

_ أنا علاء الدين، كنت قبل هنيهة في خيمتنا كعادتي وخرجت لأتجول في الصحراء قليلا، فإذا بالجو بتغير فجأة ولا أدري ماذا حصل بعدها حتى وجدت نفسي هنا.

_ أهلا علاء الدين، أنا صالح تشرفت بمعرفتك، فيما يخص ما قلت فإني أصدقه بالنظر إلى لباسك لكن إن فكرنا فيه قليلا فهو مستحيل، لكن لا مشكلة، الأهم أنك في عالم رائع، ستجد فيه من العجائب ما لا نهاية، ستسافر في رحلة جميلة فقط كن مستعدا وجاهزا.

أخذ صالح علاء الدين إلى البيت، وقدم له بعض ملابسه التي أبى علاء ارتداءها في البداية لأنه ليس معتادا عليها، لكن صالحا أقنعه وجعله يفعل ذلك، ثم خرجا أمام البيت لانتظار النقل المدرسي ولا زال علاء في هذه الأثناء تائها لم شيئا بعدا، والأسئلة تتراكم في ذهنه، جاء النقل المدرسي وركبا ليرى هذا الأخير جوا آخر، مجموعة من الأطفال يجلسون في مقاعد ويرتدون لباسا موحدا شبيها بالذي قدمه له صالح بالإضافة إلى محافظهم التي يضعونها أمامهم، توقف النقل أمام باب المدرسة لينزل التلاميذ واحدا تلو الآخر ليجد علاء التلاميذ قد انتظموا في صفوف أمام الباب ليدخل كل إلى قسمه.

أخذ صالح علاء إلى القسم وعينه تحوم في أرجاء المدرسة حيث الأقسام والساحة والتلاميذ والأساتذة بالوزرة البيضاء والكراسي والطاولات داخل الأقسام ثم السبورة كل هاته الأمور لم يستوعبها علاء بعد، دخل الأستاذ إلى القسم وشرع في إلقاء درسه والكل يركز ويستمع لشرح الأستاذ.

مرت الحصة كعادتها وانطلق الطفلان نحو الببت لتناول وجبة الغداء ولا زال علاء غارقا في ذهوله وحيرته ينظر إلى الثلاجة والفرن الكهربائي والمصابيح والتلفاز الذي يعرض شريطا من أفلام الكرتون، قضيا بعض الوقت داخل البيت بعد الانتهاء من وجبتهما ثم أخذ صالح كرة القدم واصطحب علاء نحو الملعب ليلتقي الأول ببقية أصدقائه ويلعبوا كعادتهم وعلاء لا زال يتأمل في صمت في عالم وجد نفسه فيه في لحظة من الزمن.

مرت الأيام إن لم نقل الشهور وبدأ علاء الدين يعتاد على الوضع شيئا فشيئا، كما تعرف على أسرة صالح، وعلى العديد من الأمور التي لم يستوعبها في البداية، لكن صالحا كان ملتزما بالصمت طول هذه المدة، رغم أنه يعلم الأسئلة التي تراكمت لدى علاء.

لكنه خرج عن ذلك الصمت وسأله قائلا:
-لقد عشت يا صديقي في هذا العالم مدة لا بأس بها وأدركت العديد من الأشياء، لكن من بين كل هذا أريد فقط معرفة ما الذي أثار إعجابك في هذا العالم؟

-التفت إليه علاء وقال: في البداية كنت تائها في حيرة من أمري، لكن حين اعتدت على الأمر بدأت ألاحظ أشياء رائعة نالت إعجابي بشدة.

سأتحدث عما رأيته للوهلة الأولى قبل كل شيء، إن عالمكم هذا متقدم للغاية، فالكل يتنقل باستعمال وسائل النقل الحديثة بينما كنا نتنقل في عالمنا عبر الدواب أو النوق والجمال، والطرقات المشيدة والبنايات الفخمة وناطحات السحاب، هذا إلى جانب الآلات المستخدمة في البيت وفي كل شؤون الحياة.

لكن كل هذه الأمور تعد بالنسبة لي شيئا ثانويا، فالأهم في كل هذا هو التربية والتعليم، ففي هذا العالم شيدت المدارس وتوفرت الإمكانيات ليتعلم جميع الأطفال بدون استثناء، وذلك من أجل المساهمة في إنتاج الرأسمال البشري، وهو الأمر الرائع في كل ما رأيته، هذا إلى جانب التربية التي تتلقونها في أوساطكم فأسركم تعي كامل الوعي بماهية وحقيقة ثقافة تربية الأطفال، لذلك أرى أطفالا لهم من المؤهلات ما يمكنهم من التميز في المستقبل والمضي نحو الأمام، فالأطفال في عالمكم لهم الحرية في اللعب وممارسة هواياتهم فمنكم من يرسم ومنكم من يكتب ومنكم من يبدع في شتى المجالات.

هذا يدل على أن الأجيال الصاعدة لا خوف عليها؛ فتربية الأطفال صارت مترسخة لدى أغلبية الأسر وهذا أمر مهم للغاية ومفيد بالنسبة لكم كأطفال، أتمنى أن أرى عالمي هكذا ذات يوم بعيدا عن كل تلك المشاكل والعراقيل، فما يساهم في بناء مجتمعات متماسكة البنيان هو أفرادها، لكن وجب عليهم أن يكونوا قد تلقوا تلك التربية التي أهلتهم لذلك وهذا متوفر في طبيعة الحال في عالمكم.

صراحة هي رحلة ممتعة ورائعة استلذت فيها الشيء الكثير وتعلمت من الأمور ما سيفيدني في حاضري ومستقبلي، لذلك تستحق كل الشكر والامتنان على كل ما قدمت لي يا صديقي صالح، حقا سررت بمعرفتك ومعرفة عالمك، والاطلاع على كل هاته الأمور التي جعلت بالي لا ينفك عن التفكير فيها.

لكن كل هذا للأسف لم يكن حقيقة بل حلما في منام علاء الدين الذي سافرت به مخيلته إلى أبعد مدى، لكن سفره لم يكن طويلا لمدة كبيرة، فقد استيقظ بعد اكتشافه لما يحصل، وصار يردد: ترى، هل سيتحقق ذلك فعلا؟ هل سنصل يوما ما إلى ذلك المستوى؟ هل سنتقدم فعلا لنبني حضارة فريدة من نوعها؟ والأهم من كل هذا، هل سنستوعب مفهوم التربية؟ ثم نجعلها ثقافة راسخة فينا، لنربي عليها الأجيال الصاعدة؟ هل سنصل فعلا لكل هذا يا ترى؟ هل سنصل؟ هل سنصل؟ هل سنصل يا ترى؟

1xbet casino siteleri bahis siteleri