الرداء الأبيض: الجزء 1

يبدأ زمن الحكي في مكان غريب، غابات كثيفة وأشجار ووديان، الطبيعة لوحدها تشهد كل الفصول، ما بين ربيع وخريف وشتاء وصيف، قانون الحياة ومشيئة الأقدار شاءت أن تصفر أوراق الأشجار يوما، لتتساقط واحدة تلو الأخرى، لكنها ليست النهاية، ما دامت الروح تسري في الجسد فالشكل لا محالة سيتجدد، ليتنفس نفسا جديدا.

تلك هي أحوال الطبيعة، لا بد أن تخلع ثوبها القديم لترتدي ثوبا جديدا، وتطرد زمن الأحزان، ذلك الزمن الذي ارتدت فيه ثيابا لونها لون الأطلال التي يستهل بها الشعراء قصائدهم في زمن الفراق، هذه الطبيعة مهجورة منذ زمن، لا يسكنها إنسان ولا يعيش فيها حيوان، فقط هي الغابة تحدث نفسها بين الفينة والأخرى بحفيف أشجارها ويخاطبها النهر المجاور بخرير مياهه.

عالم يتحرك وينبض بالحياة لوحده دون تدخل الإنسان، هذا الكائن البعيد كل البعد الذي كان قريبا في يوم من الأيام، لكنه قرر الرحيل ليعمر بين أربعة جدران صماء، ويكتفي بشجرة أو شجرتين في مكان أمام البيت يسميه الحديقة…في جميع الأحوال عزيزي القارئ رحلتنا هاته بعيدة عن هذا الموضوع، سفينتنا ستبحر في بحر العجائب والغرائب، بحر الحكي أو السرد.

في ذلك المكان الجميل الهادئ، حيث الطبيعة لوحدها تشهد يوما وراء يوم، وتتعاقب عليها الشهور والسنين، ومياهها في جريان دائم لا يتوقف مطلقا سيفاجئنا رداء أبيض عالق في غصن شجرة يرفرف بين الفينة والأخرى حين تأتي الرياح لزيارته. لكن، ألا يزعجنا هذا قليلا ويدفعنا للتساؤل. من أين أتى هذا الرداء؟ لماذا هو في هذا المكان بالضبط؟ علما أنه مهجور منذ زمن؟ ألم يتسخ أو يبلى مع مرور الأيام، كما تبلى الثياب فتصير رثة هزيلة؟

لا شك أن كل هاته الأسئلة ستظل عالقة في الأذهان، لكن ما سيربك هاته الأذهان، هو ما سيأتي مستقبلا، فالرداء يرفرف منذ زمن، لكنه سيرحل في يوم ما عن الطبيعة التي لا ندري كم لبث فيها. في الصباح الموالي زارت المكان عاصفة قوية، استمرت لفترة لا بأس بها، فكانت الأشجار تميل شمالا ويمينا كأنها تطيع أوامر العاصفة وتطبقها بحذافيرها، ظل الرداء متشبثا بالغصن يصارع الرياح القوية، لكن استسلامه في الأخير كان مصيره المحتوم.

ودع الغصن الرداء الذي كان يواسيه لمدة من الزمن لسنا ندري مقدارها ولا مدتها، وحلق في السماء عالقا كأنه سجين ينال الحرية التي كانت مطلبه الأول والأخير، ظن الرداء وهو في السماء أنه يطير لكن الحقيقة أنه دون الرياح لا شيء.

بدأت العاصفة تختفي شيئا فشيئا والرياح تقل سرعتها فإذا بالرداء يهبط شيئا محلقا فوق مملكة غريبة، مملكة التوأمين، حيث تكمن العجائب والغرائب، قصة تثير دهشة السامع وتسافر به لعالم آخر.

كان في هذه المملكة حاكم له حلم واحد منذ أن اعتلى العرش، هو أن ينجب ابنا واحدا يحمل اسمه ويكون خليفة له بعده، لكن هذا الحلم كان متأخرا شيئا ما فقط ظل ينتظر لسنوات وسنوات حتى صار أربعينيا وفقد الأمل في تحقق حلمه. لكن الأقدار كان لها رأي آخر، فحين لجأ لغرفته ليكتب وصيته التي سيعين فيها أحد أقربائه خليفة له، فاجأته زوجته بخبر حملها ليصير شخصا آخر في بضح ثوان من اليأس إلى الفرح والطمأنينة، أحرق قرطاسه الذي لم يخط فيه شيئا بعد، وأقام الولائم والحفلات، وأعفى رعيته من أداء ضرائب تلك السنة.

كانت المملكة في هذه الأيام تعيش أوج سعادتها، وتستعد لاستقبال الأمير الجديد، وحاكم تغيرت أحواله من اليأس إلى البهجة والفرحة والسرور، بعد أن تحطمت كل أحلامه وآماله في لحظات الانتظار شيدت أحلاما وآمال أخرى في الخفاء لتعلن له عن نفسها فيما بعدا.

مرت الأشهر التسعة والمملكة بأسرها تستعد لانتظار المولود الجديد، وما هي إلا بضعة أيام تفصلهم عن ذلك، يكاد الحاكم يطير فرحا يوما بعد يوم، لم يعد يطيق الانتظار مطلقا، لكن الأقدار لم تؤخره وكأنها استجابت لانتظاره وصبره، جاء المخاض ليعلن عن قدوم الجنين الأول، ومن شدة فرحة الحاكم أن هيأ كل شيء مسبقا، النساء اللائي تتكلفن بكل شيء.

خرج الحاكم إلى ساحة قصره والفرحة والتوتر وكل الأحاسيس تختلط وتجتمع في لحظة واحدة ما بين التيه والحيرة والحزن والفرح والبهجة والسرور، مضت مدة لا بأس بها من الزمن، ليسمع فجأة صراخا عاليا، فانهالت دموع الفرحة من عينيه لتسقي خدوده كأنها لؤلؤ سقط ليسقي الورد في الجنان.

لكن الغريب في الأمر، هو أنه صراخ مزدوج، ليس لمولود واحد بل لمولودين، لم يستوعب ما يحدث في البداية، لكن حين جاءت الخادمة وبشرته بالتوأمين خر ساجدا حامدا ربه على النعمة التي طال انتظاره لها، فحين أتى كرم الخالق كان مضاعفا.

مرت الأيام والسنين لتتغير الأحوال والأجواء، في رحلة مشيئة القدر فيها أن تكون مليئة بالمتغيرات، صار الحاكم شيخا مسنا، والتوأمان أضحيا شابين يافعين رائعين، رغم تقدم سن الحاكم إلا أن الفرحة والسعادة لم تغادره مطلقا، لكن مغادرته هي التي اقتربت، حين فكر في هذا الأمر خشي أن يرحل دون وضع النقاط على الحروف.

انعزل في بيته ليوم كامل ليقرر في شأن الحكم ومن سيكون خلفا له، لكن جميع تأويلاته وتفسيراته كانت دون جدوى، ليخرج بقرار عجيب غريب لم يسبق له أن حدث في زمن أي مملكة أو إمارة، كتب وصيته وخرج، لا أحد يدري ما الذي قرره أو توصل إليه. بدأت حالته الصحية تتدهور يوما بعد يوم، رغم الاهتمام المتزايد، والعناية التي لا مثيل لها، صار ملازما لفراشه لا يتحرك مطلقا، استمر الوضع على هذا الحال لأيام معدودة حتى زارت المنية هذا الحاكم الذي لم يلفظ أنفاسه الأخيرة إلا وقد تحقق حلمه الذي كان يصبو إليه.

طوال هذه الفترة، عاشت المملكة في جو الأحزان والخيبة، لكنها مشيئة الأقدار، بعد هذه المرحلة، وفي قانون أي مملكة، لا بد من تنصيب حاكم جديد، قام المكلفون بذلك بفتح الوصية التي تركها الراحل، وشرعوا في قراءتها، خيمت أجواء التشويق والإثارة في البلاط، بين من يختار أحد التوأمين، وبين من يقول أن الآخر هو من سيعتلي العرش، لكن المفاجأة كانت أكبر من كل هذا، حدث ما لم يحدث في تاريخ الممالك مطلقا، بعد أن أنهى المكلفون قراءة الوصية، صرحوا بأن الحاكم الراحل قد اختار التوأمين ليعتليا العرش، وفسر أسباب حيرته وعدم اختياره لشخص دون الآخر في الوصية، حيث قال بأنه لا فرق بينهما، وكأنهما شخص واحد، النقص الذي يوجد لدى هذا، يكمله الآخر، وبالتالي يستحيل تنصيب حاكم واحد.

قد يبدو الأمر غريبا بعض الشيء، لكن لم يكن أمام الرعية سوى اختيار التوأمين ليعتليا العرش، وفعلا تم ذلك، حيث أقيمت المراسيم الخاصة ببداية حكمهما، ولقي هذا الأمر استحسانا كبيرا من طرف الرعية، نظرا لحسن أخلاقهما وسمعتهما الجيدة، وطيبوبتهما، كما أنها تجربة جديدة في أسلوب الحكم، ربما تعطي أكلها وتقود المملكة نحو الازدهار والتطور.

في كل قصة أرويها أكون متفائلا، لكنني جعلت للتفاؤل هذه المرة حدودا كي لا أتفاجأ بمسار الحكي، ففي بعض الأحيان نطمئن للهدوء الذي يسود، فتأتي العاصفة التي تطرد الاطمئنان والسكينة، إنه هدوء منافق، هدوء ما قبل العاصفة.

حكم التوأمان لمدة من الزمن، كانت فيها الأمور على ما يرام، كل شيء يسير بشكل طبيعي، كل القضايا التي تعرض في البلاط تناقش من طرفهما، ليتم التوصل لحكم معين يتواضعان ويتفقان عليه.

في يوم من الأيام وكعادتهما في البلاط يسيران شؤون المملكة وينظران في قضايا الرعية حتى اختلفا في الآراء بين مؤيد لهذا الرأي وبين من يعارضه ظلا يتجادلان حتى زاد الجدال عن حده لتصل الأمور إلى الخصومة التي أودت بالمملكة إلى ما لا يحمد عقباه حيث انقسمت إلى قسمين طرف يؤيد هذا وطرف يؤيد الثاني.

لم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل تجاوزه إلى الحسم فمن يحكم المملكة لوحده دون الآخر، أما الكيفية التي سيحددان بها من يحكم هي الأخرى أسوأ بكثير، لقد اتفقا على الحرب للخروج بحل رغم أن الحروب لا تفضي إلى حل، لكن كلا الطرفان كانا مقتنعين بها، اتفقا على الزمن والمكان وأعدا جيوشهما وعدتهما ونزلا إلى ساحة الحرب.

بدأ الجيشان يستعدان لينطلق الصراع بين توأمين ما يجمعهما أكثر ما يفرقهما، بدأت العاصفة تهدأ شيئا فشيئا، ولفت انتباه الجنود شيء يتحرك في السماء، نسوا أمر الحرب وصاروا ينظرون إليه وهو ينزل شيئا فشيئا حتى اقترب من ساحة المعركة، فإذا به ذلك الرداء الأبيض الذي حملته رياح العاصفة من الغابة المجهورة، هنا توقف السارد متسائلا: ترى ما الذي سيحدث بعض سقوط الرداء الأبيض في الساحة بين جيوش التوأمين؟ وما هو أصله وقصته وحكاية وجوده في الغابة؟ انتظروا الأجزاء الموالية لمعرفة نهاية قصة التوأمين والرداء الأبيض.

1xbet casino siteleri bahis siteleri