أبترك فوق أريكتي، أسكب شايا وألحان موسيقاي تشذو وترنم، لا أنتظر أحدا ولا أحد ينتظرني، أصرت عصية الأناة أم أنني وجدت في عزلتي أنيسي؟ أحيي السلام وأنا أنادي كياني كي يستلقي بجانبي وأسكب له كأسا فنهوى سويا لحف جبلي.
بوصلتنا وهي ترفرف رموشها نبأتنا أن ديارنا اندثرت، يا ضياع مأوانا، فلم تثبت سوى أوراقنا المجتثة وقلمنا الحافي فصرت أتمتم وأتساءل أأشق جبلي بهما؟ وما المغزى من عزلتي وعسري أبكر إلى رحلتي؟ فخبأت سري في ثنايا نفسي وأنا كلي ترقب إلى دق ناقوس حريتي.
وأنا وسط معمعان معاركي تذكرت صديقي وهو يعدني أنه لن يتركني قط وأنه سيضل لي نديما مهما تغيرت الظروف وتقلبت الحياة. أدير وجهي فتلطمني رياح رمالي القاحلة ثم أستدير تارة أخرى لعلي تعاميت عن رؤيته فتصفعني مجددا إلى أن اكتفيت وفقدت الرغبة في لمحه، لطالما كان ذاك الذي يفهمني دون التفوه ويحس بحالي بمجرد النظر إلى عيني، انصرف واضمحلت معه عاداتي بل أفنيتها كي لا أتذكره فاسمه كافٍ لإحياء شعلتي، أجل يا سادة أكذب وأقول إنه ليس لي اشتهاء في رؤيته وكلي توق إلى ذلك ولكن لسان قدري تفوه بحكم آخر.
استهلت عزلتي حين استوطن قلبي مكانا وحلق عقلي إلى مكان آخر فأصبحت حينها عاجزة عن محو ذكريات فؤادي البالية، وعن خط ونحت ذكريات جديدة لبصيرتي لعلها تجد بين حنياتها مأوى لها، كبر عجزي شيئا فشيئا حتى تلذذ العزلة واستقر بين طياتها، طمس جوفه بغية سلوان الكتف الذي لم أسند رأسي عليه فاستنزف طاقته ودواليب ساعتي لم تمر بعد إلى أن يبس تاريخي وخرب عنواني.
روى كياني أني كنت حينها متقوقعة وسط عالم جعلته أبديا محاولة ترتيب تفاصيله المبعثرة والخيبة تطاردني لكنني أتجاهل جرحي وأدوس عليه كي أجد مسلكا، ودمي يتخذ في جسدي سربا وما توقفت حتى أن بغت كوني دانية إلى منيتي، فلم تعد لا رياح رمالي تلطمني ولا عجزي يسعني فأدركت حينها أني أخط أحرفي على أوراقي المهترئة، ولم يبقَ لي سوى أن أمضي نحو جوف جبلي فتنهدات أنفاسي كادت تفوق دقات قلبي وقطرات دمي روت عطش صحرائي القاحلة.
مزقت أوراقي وكسرت قلمي كي لا يعود لصفحة بيضاء جديدة تليه ما أدبر ثم ثويت ذروة جبلي وأنا أتأمل كياني المسكين، كث ما واجهه، أسير وخطاي معوجة ثم أستقيم ثم أعود وأنحرف ثم أستريح ثم أتم وهكذا إلى أن دق ناقوس بوصلتي وأخبرني أن مآل طريقي صار واضحا وسألني: يا سيدتي، طريق عودتك أبلج أتريدين العودة فكيانك منتظرك؟ تبسمت وأينع التمر. أ خضت كل هذه التجارب كي أنكص وأكرر الزلات عينها؟ كفاني زحاما فمسلكي صار جليا لكنه لم يكن كذلك لولا خطيئتي فأنا لست نادمة عنها قط.
أتممت مشواري، مشوار طويل وأنا فيه غريبة، ليلي قريب ونهاري رواح، اقتبست من عزلتي ما لم أقتبسه من اجتماعيتي فلم أستطع التخلي عنها، فيها وجدت غربتي وفطنت فطنتي. بنيت لنفسي حجرة صغيرة وجدت فيها أمنا وأمانا لم أجدهما في دياري السالفة فأدركت حينها أن مصارحتي لذاتي كفيلة بجعلي أسعد مخلوقة وأن لا شيء يضاهي قلمي وأوراقي، بهما تلذذت الطمأنينة وتلمست جوهر البوح فتحررت من قيودي وفهمت أني لست بحاجة لأنيس أو خليل ما دام جوهري حيا وقلمي به حبر.
أن تنفك عن أوهامك وتصادق مهجتك حنو كؤود وصفه بيد أنه ساحر عيشه. آلف عزلتك إن كانت مأواك، لا تخف ولا تكترث ما دمت لم تجد فعلا من يقتسم معك باطنك ومن لم يفقه ’أنا بخير’ وأنت تحتضر، وكما شفى قلمي المكسور جرحي تأكد من أن لك مأوى يشفيك أيضا، فكما تنجدني السطور تنجدك آلاف الطرق فقط صارح ذاتك، وها أنا أعود إلى أريكتي والعود أحمد لكن هاته المرة كياني لم يعد مستلقيا أمامي فقد تقبلته واستوطن داخلي، فيا مرحى، لأسخن الشاي فقد تجمد وهو منتظر وهنا أدركت أن ما ينتظرك هو ما تصنعه بيدك لا غير، فلتتفنن في صنعك ولتتقن ما تلامسه يدك لعله يأسرك مدى الحياة.