بيمارستان قالاوون: حين وضع المسلمون أسس المستشفى الحديث

“على المستشفى أن يحتفظ بكل المرضى، رجالا ونساء، حتى يشفوا بشكل تام. يتحمل المستشفى جميع النفقات سواء جاء الناس من بعيد أو قريب، سواء كانوا أجانب أو من القاطنة، أقوياء أو ضعفاء، كبارا أو صغارا، أغنياء أو فقراء ،شغيلة أو بلا عمل، عميا أو مبصرون، مرضى بدنيا أو عقليا، قارئين أو أميين. لا توجد هناك أي شروط أو دفوعات، ولا أحد يُرفض أو يُلمح إليه ولو بشكل غير مباشر إلى عدم دفعه للمال. الخدمات متاحة كلها بفضل عظمة الله الكريم.”

هذا المقطع من الوثيقة المؤسسة لمستشفى قالاوون الذي يعد من بين أهم وأشهر المستشفيات في التاريخ الإسلامي المُشرق، بناه السلطان المملوكي المنصور قلاوون عام (683هـ/ 1284م) وكان يسمى البيمارستان أو المارستان اختصارا -أي أرض المرضى بالفارسية-. لم يكن ليضاهيه أي مستشفى آخر في العالم الإسلامي ولا الأوروبي بطبيعة الحال، بسبب تفوق الحضارة الإسلامية في مجال العلوم والطب آنذاك. وقد ألحق به السلطان مسجدا ومكتبة ومدرسة للأيتام.

لمع نجم السلطان المملوكي المنصور قلاوون (620-689هـ/1223-1290م) في عهد السلطان الظاهر بيبرس الذي أولاه ثقته وزوَج ابنه من ابنته، ثم قام بأمور الدولة في أيَّام العادل بدر الدين بن الظاهر بيبرس، قبل أن يخَلع العادلَ ويتولَّى السلطنة في (678هـ/ 1279م).

يعود سبب بنائه إلى كون المنصور قالاوون، كان قد أصيب بمرض في دمشق، خلال إحدى حملاته العسكرية ضد الروم حين كان أميرا، فعولج بمستشفى النوري الكبير بدمشق، وأُعجب بالمستشفى ومرافقه، فنذر أن يبني مثله إن آتاه الله الملك.

كان مستشفى قلاوون يحتوي على قسمين، للرجال والسيدات وفي كل قسم قاعات وغرف لمختلف التخصصات فضلاً عن قاعة لتجبير العظام. كما كان لكل جناح رئيس من الأطباء الكبار وثلاثة مساعدين في التخصصات الكبرى الثلاث: الأمراض الباطنية (الأطباء الطبائعيون)، الجراحة (الجرائحيون) وطب العيون (الكحالون). يتم تحضير الأدوية داخل قاعات المستشفى، ثم يجري وضعها في أوان خاصة بها، ثم تخزينها في جو مناسب لئلا تفسد. وكان في المستشفى صيدلي مسؤول عن هذا الأمر، وممرضون يقومون بتسليم الدواء إلى المرضى ومتابعة تناول كل منهم لعلاجه.

جرى الاهتمام بالمرضى بشكل كبير، إذ جُعل لكل مريض سرير وفرش كامل، وكان يتم توفير الأدوية والعقاقير، فضلاً عن الماء العذب والطعام الذي يأتي المريض مغطى وفي آنية خاصة لا يستعملها غيره، بالإضافة إلى توفير عمال لنظافة المستشفى وغسيل ملابس المرضى وقضاء مصالحهم. أعطي المرضى مراوح يستخدمونها في التهوية في الصيف. كان المريض يُعطى كسوة عند برئه، ويجهز ويكفن إن مات. كان المؤذنون في المسجد الملاصق للمستشفى يؤذنون في السحر قبل ميعاد الفجر بساعتين، وينشدون الأناشيد بأصوات ندية تخفيفا على من أضجره السهر والألم.

ومن أسرار الإدارة المحكمة للمستشفى وتوفير المداخيل اللازمة لتسييره، فقد أوقف السلطان عددا من العقارات والحوانيت والحمامات والفنادق لأجل المستشفى. ويظهر هنا أهمية “الوقف” كمورد تمويل هام ومستدام في العهد الإسلامي المزدهر.

مقالات مرتبطة

يقول ابن بطوطة: “وأما المارستان الذي بين القصرين عند تربة الملك المنصور قالاوون، فيعجز الواصف عن محاسنه، وقد أعد فيه من المرافق والأدوية ما لا يحصر، ويذكر أن مجباه ألف دينار كل يوم.”

مارس مستشفى السلطان قلاوون دوره الكبير في تدريس الطب، بعد أن استقبل الطلبة الراغبين في تعلم مهنة الطب بواسطة الأساتذة الكبار في المستشفى. كانت قاعة المحاضرات حيث يلتقي الطلاب، إلى جانب كبار الأطباء والمسؤولين الطبيين، موضع مناقشة المشاكل الطبية بأسلوب الندوة. مع تقدم التدريب، يرافق طلاب الطب كبار الأطباء إلى الأجنحة ويشاركون في رعاية المرضى. وفي هذا حرص على التعلم التدريجي للطلبة نظريا وعمليا، وحماية المرضى من قلة فهم المتعلمين. يقول ابن الأخوة (ت 729هـ) في كتابه معالم القربة في طلب الحسبة: “فَإِنْ بَرِئَ مِنْ مَرَضِهِ أَخَذَ الطَّبِيبُ أَجَرْتَهُ وَكَرَامَتَهُ، وَإِنْ مَاتَ حَضَرَ أَوْلِيَاؤُهُ عِنْدَ الْحَكِيمِ الْمَشْهُورِ وَعَرَضُوا عَلَيْهِ النُّسَخَ الَّتِي كَتَبَهَا لَهُمْ الطَّبِيبُ، فَإِنْ رَآهَا عَلَى مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ وَصِنَاعَةِ الطِّبِّ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ، وَلَا تَقْصِيرٍ مِنْ الطَّبِيبِ قَالَ: هَذَا قُضِيَ بِفُرُوغِ أَجَلِهِ، وَإِنْ رَأَى الْأَمْرَ بِخِلَافِ ذَلِكَ قَالَ لَهُمْ: خُذُوا دِيَةَ صَاحِبِكُمْ مِنْ الطَّبِيبِ، فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي قَتَلَهُ بِسُوءِ صِنَاعَتِهِ وَتَفْرِيطِهِ.”

ولا أدل على الدور العلمي المهم الذي قام به المستشفى، اهتمام العالم الكبير ابن النفيس، كبير أطباء مصر (ت687هـ) به. ابن النفيس كان أول من وصف تفاصيل الدورة الدموية الصغرى، قرونا قبل أن يصل الأوروبيون إلى نفس خلاصاته، وقد وهب قبل موته داره ومكتبته بجميع مؤلفاتها لمؤسسة المستشفى.

توالت القرون، وتبدلت الأحوال، وتقهقر المسلمون علما وعملا، حتى أصبح مستشفى قلاوون يوصف في بداية القرن ال19 على لسان أطباء حملة نابوليون بمصر كمكان مهجور، يرقد فيه بعض المرضى الذين تآكلهم المرض، وأكثرهم مصاب بأمراض عقلية، قد ربط بالأصفاد، وعزل في قاعات حالتها مزرية. كما يصف عالم الآثار الألماني George Ebers الذي زار المكان أواسط القرن 19 تحول الناس من قصد المستشفى للتداوي وفق أعلى المعايير العلمية وأرفع الأنظمة التكافلية الاجتماعية، إلى معتقدات تختزل الانحدار الذي وصلته هذه المعلمة وعمارها “لقد تخرب ولم يبق سوى تربة مؤسسة يأتي إليها المرضى يزورون مخلفات السلطان بقصد الشفاء، يمسون عمامته لشفاء أوجاع الرأس…”

هذه القبسات من التاريخ المشرق ليست بغرض التسلية ولا البكاء على الأطلال، بل مساهمة في بعث روح معنوية إيجابية في جيل جهل ماضيه، وعجز عن كتابة حاضره، لعله يستفيق ليخط مستقبله بيده، بعيدا عن الإحباط، وبعيدا أيضا عن الاستيلاب المفرط لنماذج غربية هي نتاج تراكم إنساني، قام المسلمون فيه بدور محوري.

_____________
المصادر:

مستشفى السلطان قلاوون في القاهرة، من أوراق الحضارة الإسلامية – بقلم الدكتور حاتم الطحاوي.
مجموعة قلاوون، تحفة معمارية فريدة – راغب السرجاني
من تاريخ طب النفس والأعصاب عند العرب والمسلمين – محمد إبراهيم الأتاسي.
تحفة النظار في غرائب الأمصار – ابن بطوطة.
معالم القربة في طلب الحسبة – ابن الأخوة.
David W. Tschanz – The Islamic Roots of the Modern Hospital
LINDA S. NORTHRUP – UNIVERSITY OF TORONTO : Qalawun’s Patronage of the Medical Sciences in Thirteenth-Century Egypt

1xbet casino siteleri bahis siteleri