لأنه الله

تحت زخات المطر المتراقصة، وأصوات هرولات السائرين الذين يحتمون من المطر مخافة أن يبللهم، أراني أتأمل في سمائي علي أجد خيالا منك يلوح في الأفق البعيد، فتؤنس ليلتي تلك، أتمشى وجانبي مدجج بحماية منك بكل تأكيد، كيف لا وأنت الرقيب، فإن كنتَ غائبا عن الأعين فالقلوب تتعهد باللقاء كل يوم، وإن كنتُ طرفا وحيدا في الحديث، فأنا على يقين أنك مستمع منصت لكل كلمة نطقت بها شفتاي، حتى تلك المكنونة في دواخلي التي لم تسعفها الكلمات أن تترجمها، قادر على فك شيفرة دقات قلبي المتسارعة وأنا أرجو منك أن تخمد حدتها، أحدثك دون كلل وأشاطرك أفكارا كيفما كان نوعها، وأنت في كل مرة لم تمل من الاستماع لي، هذا لأنك قريب تجيب دعوتي بكل فرح وسرور، فهل لي أن أحدثك عن مشاعري وأنا أتقاسم معك ما يختلج في أعماق قلبي التي أنت على علم مسبق بها، أتقرب منك خطوة فأراك تأتيني خطوات، أمشي إليك فأراك تهرول نحوي مجيبا دعوتي رغم ابتعادي عنك دون سابق إنذار، رغم زلاتي ورغم أخطائي أجدك فرحا لعودة عبدك الفقير هذا.

 

نظن الدنيا ملاذا، وما هي في الأصل إلا غفلتنا، نخطو خطوات متسارعة لأجل شهوات النفس وطموحات العقل ومرجوات القلب متناسين الهدف الأسمى الذي نحن من أجله موجودون، ناهيك عن أننا غارقون في تحقيق أهداف كلفتنا ضعف النفس وهشاشة القلوب، كلفت عيوننا نزيف الدموع فلا تكف العقول عن تمرير شريط اللوم في كل مرة نتذكر فيها إخفاقاتنا وخساراتنا، فنتخذ من ذاك الركن البعيد عن الأنام نتسابق من أجل أن نختلي بأنفسنا ونذيقه أشد أنواع العذاب النفسي ألا وهو اللوم والندم متغافلين أن الحياة ما هي إلا أخذ وعطاء وأحيانا محطات استراحة وأحيانا أخرى مطبات ليست بالرحيمة، ترفعك أعلى عليين فتظن أنك ممن اختيروا من أجل إحداث التغيير فيتخللك قليل من الكبر ممزوج بالفخر والسعادة فترتسم الحياة أمامك في أجمل الصور، ومرات تراها تسقطك أرضا، فلا تلبث حتى ينكسر ظهرك من ثقل الأحداث ويلتوي لسانك من مرارتها، ويكتوي قلبك من شدة حرارتها، وما هي إلا لحظات حتى تجد نفسك تقول يا رب، وقد يلبى النداء في الحين وأحيانا أخرى قد يتأخر لحكمة لا يعلمها سواه، لكن الأساس أنه وإن تلفظتك أمواج الغفلة وتهت في دوامة من الأحزان ما إن ترفع يدك حتى تجد طمأنينة تتسلل بين ثنايا جسمك وتتنفس الصعداء وكأنها تحيي كل جزء ميت منك.

 

ندرة هم من يتخذون من طرف الليل زمانا ومكانا، والصلاة والقيام وسيلة للتقرب منه سبحانه، فهو ماينزل إلا فرحا مبتهجا يراقب عبدا متضرعا مفتقرا ذلولا بين يديه ، لا يكل من مناجاته، لأنه عليم بأنه لا مناص ولا مهرب منه إلا إليه سبحانه، فمن غيره قادر على أن يجعل من الحزن شرارات متناثرة وكأنه لم يكن نارا تحرق القلوب، ومن غيره يزيل تلك الأشواك التي ظلت تعرقل مضينا قدما ومن غيره يرسل في طريقنا أشخاصا ونحن في أمس الحاجة لمن يربت على أكتافنا ويشد عضدنا ويعيننا على استكمال الطريق بعد أن أجهدنا طوله وضللتنا كثرة محطاته، كيف لا وهو القائل: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186]

 

حتى في أحلك الظروف أو بالأحرى نحن من اتخذنا منها لحظات سوداية، فهي ما تلبث حتى تكون بداية لذلك الانفجار العظيم الذي يشع به نور لم تكن لتتوقعه يوما وأنت في خضم تلك الأحداث المؤلمة، فالتعاسة تنجلي والابتسامة تعود لتتخذ من وجهك مقاما، والدموع التي كانت تتساقط على خدك حارقة، ها هي الآن تسقط فرحا تخمد تلك النار، وإن طالت فترتها ولم تزل، فبالتأكيد ما هي إلا سبب لتغفر ذنوبا اقترفت في الماضي علنا نفطن ونستفيق من غفلتنا هذه.

 

كثيرة هي تلك اللحظات التي يتزاحم فيها الكلام، وتبقى الكلمات عاجزة غير عادلة في التعبير عن مكنونات ظلت كغصة في الحلق فلا هي تتركك لتتنفس في سلام ولا هي تندثر بمجرد الكلام، حزن يجتاحك لفقدان حبيب أو عزيز أو أخ أو صديق، حزن يخيم على قلبك تاركا جرحا لا يندمل ولو بمرور الأيام وتوالي الثواني والساعات، فتظل تلك المنطقة في يسار صدرك ترتدي ثوب الحداد إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ففي اللحظات الأشد قتامة كهذه ما نلبث حتى نتجه خطوة خطوة لنصل الرحم مع من تغافلنا عنه منذ حين، نتوضأ علنا نتخلص من أدران الحياة التي أثقلت كاهلنا، فنرتدي ثياب الصلاة، ونول وجهنا شطر المسجد الحرام، عل الحزن ينجلي بلقاء ربنا، نكبر *الله أكبر* معترفين في كل مرة أنه الأكبر والأعظم من كل ما نحن بصدد عيشه وقادر بكلمة منه أن يغير موازين الأرض كلها، ونشهد أنه لا إله إلا هو وحده لا شريك له نحمده على ما هدانا إليه، ونصل على خير الأنام صلى الله عليه وسلم راجين من حوائجنا أن تقضى، ونركع، نسجد وترى دموعا تتساقط على حين غرة وحسرة عن تغافلنا هذا، ومن جهة أخرى تتبلل الرموش عسى الحزن الذي تربع على قلبك يندثر، وما إن تنتهي منها حتى ترى حملا قد حط رحاله مع كل سجدة وركعة ودعوة، حركة بسيطة ما تغافلنا عنها حتى عدنا ونحن في أمس الحاجة إليها.
فوالذي بيده ملكوت كل شيء، ما ابتلى عبدا إلا وقد أحبه، ما أدخله في دوامة من الأحداث الصعبة المضنية الشاقة إلا ومن ورائها حكمة أعظمها حب الله وأسماها مغفرة الذنوب، وأجلها أن الأنبياء هم كذلك لم يسلموا منها مصداقا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : “إذا أحب الله عبدا ابتلاه ليسمع تضرعه.” رواه البيهقي في شعب الإيمان، والديلمي في مسند الفردوس عن أبي هريرة. فعادة العواصف تأتي لإحداث كارثة تعرقل الحياة الطبيعية، لكن بعضها أيضا يأتي من أجل التنظيف.
الحياة امتحان، والصبر وسيلة، والتقرب من الله والفوز بجناته هو الهدف الأسمى، فكفانا خوفا وتوترا وهو بيده كل شيء، ولنرحب بكل عراقيل الحياة التي ما جاءت إلا لتذيقنا حلاوة الراحة من بعدها، صعبة لكنها في الوقت نفسه مدججة برفقة الله سبحانه وتعالى الذي لا يكلف نفسا إلا وسعها، وينتظر في كل مرة عودة عبده ليسمع دعاءه وابتهالاته وصلواته.
1xbet casino siteleri bahis siteleri