أين أينُك الآن؟ من تهافُت التّفاهة…ومشاهير البطالة!!

683

من أين تأتي الشاعريّةُ؟ من ذكاء القلب أم من فِطْرة الإحساس بالمجهول؟ أم من حدْسٍ مستقطع؟ إنّ عدم قدرتنا على التعبير أحياناً، ترجع إلى عدم قدرتنا على الحدس الصّحيح…أكتب حين أترك خطاً من كينونة تسمو فوق المتشابه والمألوف، أكتب عن فكرة تخبو أو طفلة تحبو، أكتب بلا سأم ولا أهتم إن خسرت الكثير، وربحت ذلك التمرين الصامت على ورقة النوتة بحبر سرّي!

أكتب لأن في الكتابة عقّار روح أصابها السّقم، وبلسم جرح يهتاج من الألم! أكتب ما أسمعه وما لا أسمعه، ليرتفع الغموض عن الأشياء! أكتب ما يحلو في ومضة زمن عجول لا ينتظر! للشغف موعد لا أخطئه فيما أتفق! فالشغف قد يمرض ولا يموت! إلى أمهات أوقدن لي شموع الطريق، إلى حب أكثر يرث من التسامح ما يفيض! إلى سؤال مجهول؟ في صوت ديك الفجر إلى أصدقاء وزملاء أحببتهم وأعدهم بطول الرّفقة.

إذا كان الإنسان هو كائن التمثُّل والتخيُّل، فإن الآلة ومشتقاتها من وسائط وفضاءات سبرانية واعتبارية قامت برَدْكَلَة (جعلتها جذرية أو راديكالية) العلاقة بموضوعات العالم من أشياء وأشخاص وكائنات، التي أصبحت علاقة يغزوها الخيال وقرصنة الصور الذهنية. أصبح الإنسان منغمسًا في الفضاء الاعتباري الذي ردَّه إلى أصله الخيالي أو فتح وعيه على أنه «كائن الخيال والتخيُّل». وجد في هذا الفضاء ما يُغذِّي خياله مرَّتين: الخيال النابع من الذهن، والخيال المتجسِّد في الفضاء الاعتباري مثل الميتافيرس.

أتاحت الآلة للإنسان نوعين من العلاقة بالوجود: «التعلُّق» و«الفرار» من جهة التعلُّق بهذا الفضاء إلى غاية التماهي معه نظرًا للطبيعة الخيالية للإنسان (الفضاء الافتراضي هو «خيال مضاعف»)، ومن جهة أخرى الفرار من الواقع الذي لا يتحكَّم فيه من أجل واقع آخر يتحكَّم فيه (تكنولوجيًا ورقميًا) وهو الواقع الاعتباري أو الافتراضي.

في كتابه “وحي القلم”، يتعجّب الأديب مصطفى صادق الرافعي من بعضهم قائلاً: عجبت لمن يرتب الفوضى القائمة في حياته ومكتبه وفراشه وبيته لكنه يترك الفوضى قائمة في قلبه! طرح الرجل استنكاره هذا في الربع الأول من القرن الماضي، ولم يعرف حينها أنه سيأتي على الناس زمان تصبح حركتهم الدائبة كلها قائمة على تنظيم الخارج وترتيبه مع إهمال شبه كامل للروح ودواخل النفوس، ذلك أننا نحيا في زمن تغلب عليه أبجديات السوق، وكل ما حولنا ومن حولنا يخبرونا بإلحاح على أن التسويق هو أهم مكوّن من مكونات النجاح والوصول إلى القمة، وعليه بات الواحد منا منشغلاً بتأكيد أن سعره في سوق الحياة ليس بخساً، وأنه يساوي الكثير!

ومع اعترافنا بأن التسويق فعلا شيء مهم، إلا أننا وقعنا في الفخ، حيث صار تسويق المرء منا لنفسه أكبر من قيمته الحقيقية، ومع الوقت بتنا غير مهتمين بالقيمة وانشغلنا بالسعر! ساعد على هذا بقوة توغل شبكات التواصل الاجتماعي في حياتنا، وظهور نجوم جدد على الساحة، لا يملكون من القيمة شيئا، لكنهم يعرفون سعر أن يكون لك معجبين كثر، وعليه صار انشغالهم الرئيسي منصباً على نيل الإعجاب، وزيادة المعجبين، والحفاظ على سعره في سوق النجومية الجديد، وأي حديث عن قيمة ما يحمله، لا يعني إلا التأخر، كل شيء يمضي سريعاً لذا لا يجب أن نتمهل أبداً، حتى وإن كان تمهلاً فيه مراجعة للنفس، وتقويمها، وتربيتها، ورقيّها. أزمتنا الحالية هي أننا نجتهد كثيراً في إجابة السؤال الخطأ، ونهمل بشدة الالتفات إلى الأسئلة الصحيحة!

نهتم أن نجيب عن سؤال المجتمع لنا: “من أنت؟!”، هذا السؤال الذي يجيب عنه رصيدنا البنكي، وموقعنا الوظيفي، وسيارتنا الحديثة، وماركة النظارة والهاتف والحذاء! للأسف عنت شديد يؤلمنا ويأخذ من أرواحنا في الرحلة تلك، حالة من عدم الرضا عن أي شيء وصلنا إليه، نحن بحاجة لأن نسعى أكثر، ونحارب أكثر، ونكسب أكثر، كي تكون إجابتنا حاسمة ونحن نخبرهم أننا نساوي الكثير، غير أننا وأثناء انهماكنا في إجابة السؤال السابق، نهمل أن الجانب الآخر شيء بالغ الأهمية، سؤال أهم بكثير من هذا السؤال المزعج، وهو: من أنا!؟ هذا السؤال الذي نحتاج للإجابة عنه أبجديات أخرى، ومعادلات أكثر دقة، ووضوح غير محبب للنفس.

“من أنا؟” سؤال لا يجيب عنه رصيد مالي ولا عدد المعجبين، ذلك أن إجابته الحقيقية تأتينا من الداخل، تتعلق بشكل كلي بقيمتك كإنسان، بمعركتك مع هواك، بقيمك التي تحملها، وقناعاتك التي تمضي بك واحترامك لذاتك.

الاحترام الذي يوقفك عن خوض معارك غير شريفة حتى وإن كانت أرباحها ستزيد من سعرك وأنت تخبرهم “من أنت”، احترامك لحقيقة أننا بشر وأن ما نفعله ونقوم به على سطح الأرض ما هو إلا خدش بسيط على وجه الحياة الممتدة، وأننا لن نحصل على كل شيء، فلنحصل إذن على ما يريح ضمائرنا المنهكة، ويضيف سطراً جديداً في سجل الشرف واحترام الذات.

يرى الكاتب والأديب “أوسكار وايلد” أن “أزمة الحياة تكمن في هؤلاء الذي يعرفون سعر كل شيء لكنهم يجهلون قيمة أي شيء!”
ستجد دائماً من يعرف سعر البلد لكنه يجهل قيمة الوطن! ومن يعرف سعر المرونة والذكاء و”تفتيح المخ” لكنه يجهل قيمة الشرف والمبدأ. غير أن الأسوأ من ذلك حقاً أن نعرف سعر أنفسنا ونجهل قيمتها، أن نُخدع بالاستحسان الذي نراه في عين الناس رغم يقيننا أن دواخلنا تعج بالفوضى والارتباك. أن يصبح سؤال “من أنت؟” الذي يوجهه لنا المجتمع هو محرك الفكر والسلوك والمشاعر مع إهمال كامل للنظر للداخل وإجابة أسئلة الروح.

المرء منا يا صاحبي يحتاج إلى أن يكون مميزاً، وناجحاً، ومحبوباً، يحتاج إلى أن يعرض نفسه على الناس بشكل حسن ورائع، غير أن روعته تلك يجب أن تكون صحيحة وناضجة، مبعثها روح طيبة تحمل قيم الخير والجمال وحب الناس ونفعهم، بمعنى أننا نحتاج إلى تسويق قيمنا الأصيلة لا مظهرنا الخارجي فقط، ذلك أن خطورة الانفصال عن الذات وخداعها يصنع فجوة هائلة، تجعلنا غير سعداء، ولا هانئين، ومضطربين دائماً برغم كوننا في نظر الآخرين مميزين وناجحين.

لقد حدث يوماً وأن سأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه أحد رعايا دولته عن حاله، فأجابه الرجل: أنا بخير ما دام أمير المؤمنين بخير، فتوقف عمر ونظر إلى الرجل قائلاً بصرامته المعهودة: بل أنت بخير ما دمت تتقي الله. أنت بخير حينما تعرف قيمة نفسك الحقيقية وترفض أن يضعك أحد فوق أو أقل من قيمتك.

نعم، المرء منا بخير ليس بسبب رضا الخليفة ولا الرئيس، ليس بخير بسبب رضا الناس والمجتمع، ليس بخير بعدد “اللايك أو الفولوورز” إنما يصبح بخير حقاً حينما يتوجه باهتمامه إلى رعاية ضميره، وضبط معايير الخير والشر والحب والكراهية، ويتعهد بناؤه النفسي بالاهتمام خشية أن تصيبه الأمراض الاجتماعية بتصدعاتها الخطرة.

أنت لست بحاجة للخداع، ولا رغبة لديك في أن تحمد على مالم تفعل، كما أنك لست متأخراً ما دامت روحك معك ولا تلهث في سباق الحياة وحدها.

1xbet casino siteleri bahis siteleri