العبد الذي بداخلي..

حقيقة، أتعبني كثيراً هذا المقال، وحين أقول ذلك لا أقصد المعنى الرائج للتعب الذي يتم التعبير عنه بشكل مبالغ فيه، بل أقصد أنه أنهكني لما يزيد عن ستة أشهر وأنا أحاول الكتابة، لكن قلمي لا يستقيم بين يدي، في كل مرة أجدني عاجزة لا أتقدّم في الكتابة ولو خطوة واحدة.

أعلم أن هذا النص متناثر، وقد يجده البعض غريبا نوعاً ما أو غير مفهوم من الأساس، مثلي تماماً الآن، لم أبذل قصارى جهدي في ترتيبه، فهذا لا يهم البتة. لا أتصنع أي شعور، لا مرحلة انعدام الرغبة في التحدث ولا المحاولات، لست حزيناً ولا كئيباً، أنا هنا في غرفتي أستدعي كل أحزاني السابقة وكأن حزناً واحداً لا يكفي، في غرفتي أنا وذاك العبد الذي بداخلي، الذي في كل مرة يؤدي دور قاضي التحقيق، ليعاتبني على أي خطوة أُخطوها، حتى وإن فكرت في الأمر على نحو ناضج.

لا مناص لكل واحد منا من هذا اللقاء، حتى وإن ركضت بعيدا، وحيدا سيركض إليك هذا البؤس الذي لطالما ركضت هاربا منه في كل مرة. وأعتقد أن الفترة التي قضيتها مع العبد الذي بداخلي بعيداً عن الناس وأخذ الاحتياطات اللازمة من أجل الوباء قد صنعت مني إنساناً آخرا أكثر سلاماً وإبداعاً وكذلك إنتاجاً وتأملاً.

كصفحة بيضاء، معتدل المزاج وهادئا إلى أن بدأت الحياة تتخذ مجراها السابق، عادت الحياة وعادت معها نفسيتنا إلى ما كانت عليه سابقاً حيث كانت تارة مدّاً وتارة جزراً، وسط دوامة من السرعة والتوتر وكثرة الثرثرة، أستيقظ ولا أتجاوب مع الرشفة الأولى من فنجان القهوة ولا الثانية، لست قادراً على مجاملة أحد أو الابتسام بوجه أحد، بوجه هؤلاء ذوي النسخ المتكررة الذين تضطر لتحملهم ومجاملتهم على الرغم من تفاهتهم، هؤلاء الذين يعيشون على هذه الأرض بلا طقوس أو عادات أو تفاصيل، المتحمسون لأي نقاش ولأي موضوع تافه والذين تضطر للتجاوب معهم فيه فقط خشية فقدانك للعلاقات الاجتماعية، لكلنك تبقى وحيداً.

مقالات مرتبطة

تجد نفسك وسط إيديولوجيات مختلفة، تتحمل بعض الأفكار والمعتقدات والاتجاهات العامة الكامنة في أنماط سلوكية معينة، أجدني وسط هذه السلوكيات أحلل وأفسر الأسس الأخلاقية لأفعالهم مع عدم المقدرة على تبرير سلوكياتهم.

لعلي كنت أعيش سابقا هذه الحالة، كل سنة أو شهر، والآن ربما على طول الأيّام، إلى أن أضحت حالة طبيعية يومية، أنا على دراية تامة بأن الكثير والكثير مثلي قد يعيش نفس الشعور الذي لا مناص منه، قد يراها البعض كأنها حالة نفسية تنتقم من جسده، وقد يراها البعض الآخر حالة من عدم الوثوق والضياع، والبعض الآخر يراها مراهقة عاطفية، أو إدراك للاشيء بداخلك سوى الخردة، وصور نمطية مجتمعية بائسة.

رغم أن الأمر متعب، يستغل البعض هذا اللقاء، لقاء العبد الذي بداخله لإحياء نفسه من جديد وتصحيح كل هذه الصور النمطية وإحياء النفس من أجل مواجهة هذه الأرض بأمورها السيئة وقسوة سكانها في الألفاظ والأسلوب وحتى في نظرات الأعين، يأتي هذا العبد الذي بداخلي وبداخل أي بني بشر منا كبلسم على الرغم من قساوة معاتبته في البداية، يأتي للتصحيح وإعادة النظر في الأشياء، يريك الأمور على حقيقتها، يجعلك المسؤول عن نفسك؛ عن أي تصرف أو خطأ اقترفته، يعلمك كيف تجمع شتات نفسك وأن تكون بلسم نفسك، وتتوقف عن لوم المحيط والمؤسسة والنظام وأن تعلم أنك المسؤول الأول عن كل ما يحدث لك، أن تزيل قناع المثالية، لأننا كبشر نحب المثالية في كل شيء، وهذا غير معقول، تأتي أوقات يتعين علينا أخذ استراحة من كل هذا، مع كل هذا الضغط الهائل من الأفكار التي تشتت كياننا.

ختاما، ما دامت الشمس تشرق، دائما لديك الفرصة لمراجعة نفسك لتكون الأفضل، بغض النظر عن مدى صعوبة هذا اللقاء وبغض النظر عن عدد المرات التي يضرب فيها وجهك الأرض حيث لا يمكنك النهوض، لكن الأمر في الأول والأخير متروك لك، بين يديك، إمّا أن تبقى على الشاطئ والاستمرار في اختلاق الأعذار، أو العودة لمواصلة الحياة، وأن تشق الرحلة بأفكار وأناس جدد وأن تعلم أن الأوقات التي تشعر فيها أنك تحت الماء كما لو أن شخصاً يدفعك.

هي فترة لا مناص لك منها، لكنها على كل حال فترة وجيزة، وتذكر أن الأشياء البئيسة التي تحدث ما هي إلا إشارة لإحياء إنسان جديد يصلح نفسه بنفسه، إنسان لا يخاف، ويتأقلم، يصرف فكره وخوفه عن الغيبيات.