خلف سوء التّعبير يُفقدُ التّقدير

لطالما رسمنا صوراً نموذجية عن أشخاص نعرفهم معرفة سطحيّة قبل أن نتعمّق في معرفتهم أكثر. وإذا قمنا بعمل مقارنة بين تلكَ الصورة الأولى المشوّشة السّطحيّة والتي زيّناها ببعض المواصفات من نسجِ خيالنا وبين الصورة الأصلية التي مزّقت رداء الخيال وأرْدتهُ جانبا، فإننا حتما سنجدُ هناك فرقا كبيرا بينهما. ذلك لأن الخيال شيء والواقع شيء آخر؛ فقد نجد مثلا أننا ظلمنا شخصا بأخذ فكرة أوليّة مغلوطة عنه، بينما القربُ منه جعل النقاط المشوّشة تتضّح. أو قد نضع فردا في قالب جليل بداية، ثم نكتشف بعد الأخذ والرّد معه أنه لا يستحق ذلك. والأمثلة تتعدد وتختلف في هذا الجانب.

في نظام العلاقات لا يمكن إسقاط نظرة محددة على شخص دون التعاطي معه أو محاولة التقرب منه ولو بشكل جزئي؛ لأن شخصية الفرد بهذا الخصوص يمكن أن تنقسم إلى قسمين:

  • الأول: جزء يشمل اللطف والعطف، والرقيّ والاتّزان، وكل الخصال الطيّبة.
  • الثاني: يشمل عادات سلبية، قلق وعصبية، تراكمات ومشاعر مخزّنة أكل عليها الدّهر وشرب فلا يمكن بترها أو إرغامه على تغييرها لأنها جزء يتجزأ من شخصيته ويساهم في بنائها. وكلاهما معا يشكّلان ذاته، وصفاته، وكيانه، وشخصه أيضا.

في بعض الأحيان، نشتكي من تبدّل تعامل شخص معنا، أو تغير تصرفه غافلين عن كونه شخصا له أحاسيس ومشاعر، ومعرّضٌ للضغوط والانهيار، أنه هشٌّ وله سعة تحمل، أنه إنسان يحسّ ويتأثر بما حوله، أنه قد يصبر ويصبر ثم فجأة ينفجر بسبب كلمة. أنّ تجاوزه المستمرّ ومحاولة غض الطّرف عن أفعال معينة وأقوال كثيرة ما هو إلا محاولة منه لحماية سور علاقتنا من الانهيار والسقوط، وأنه في يومٍ ما قد يصبحُ شخصاً مختلفاً عمّا عهدناه؛ وليس لنا الحقّ حينها في لومهِ وعتابه وقتها، لأنه إن قمنا بإرجاع شريط الأحداث للوراء، واستحضرنا مواقف كثيرة جمعتنا معاً سنعرف السبب وراء تغيّره؛ ففي بعض الأحيان، حين نجد من يغفر زلاّتنا، ويتجاوز عن سوء أفعالنا، ويغض الطّرف عن عيوبنا، بل ويسامح ويتناسى كل خصام دار بيننا دون أن يجعل منه خلافا، نحسب أنه سيستمر في هذا دائما، ونظنّ أننا ضمنّا وجوده معنا إلى الأبد رغم الجفاء الذي قد نقابل به تعامله، وازدراء عشرته وهذا عين الخطأ.

في الجهة المقابلة لما سلف، فإننا أحيانا قد نعطي أشخاصاً قيمة مضاعفة لحجمهم الأصلي، ونقدِّرهم بشكل يفوق تقديرنا لأنفسنا، مما يدفعهم للإحساس بنرجسية غريبة تجعلهم يفكرون بأنهم أوكسجين حياتنا، وأنّ الحياة بدونهم لن تستمر أبدا. كما أنّ هذا كفيل بإتعابنا، ونهشِ أنفسنا، والتنغيص على سكينتنا، وإتلاف تصالحنا وذواتنا. وهذا ما هو إلاّ نتاجُ فرطِ محبتنا للآخر، وسوء التعبير عن تلك المحبة بالشكل الذي نحافظ فيه على سكينة أنفسنا والآخرين معا؛ ذلك لأنّ المبالغة في إثبات الحب، أو نهجِ سبلٍ تفتكُ بكرامتنا يؤدّي إلى خسارتين: الأولى خسارة سكون النّفس، والثانية خسارة الآخر، والأولى أشدّ وأفتك، وأصعب. ومثال عن هذا بالون النُّفَّاخة الذي يلعب به الصغار؛ هذا البالون يتمدد جسمه إثر عملية النّفخ وله سعة معينة إذا زاد عنها فسينفجر، إذا أخذنا واحداً وبدأنا ننفخُ فيه وننفخُ دون احترام سعة حجمه الأصلية فإنه حتما سينفجر في وجهنا، ويذهب كل تعبنا في النّفخِ سدى، فلا نحنُ ادّخرنا الجهدَ المبذول في عمليّة النّفخ، ولا ظفرنا ببالون نستمتعُ ونلعبُ به.

إذا قمنا بالبحث عن المنهج الصحيح والقويم الذي على أساسه تقوم العلاقات، فسنجد أن الوسطية والاعتدال في التعامل مع الآخرين هو الأصلح والأنجح. وهذا يقوم على إعطاء الآخر حقه دون إغفال حق أنفسنا علينا؛ وذلك من خلال عدم تكليف النفس ما لا طاقة لها به من أفعال وأقوال، وصفات أيضا. فأن نقول بلطف “لا”، و”كفى”، وأن نختم علاقة استنزفت دواخلنا بنقطة نهاية ثم نقوم بطيِّ الصفحة برفقٍ، ليس بالفعل السيء.

أن نعبّر عن حبنا بعفويّةٍ دون تصنّعٍ أو تكلّفٍ هو أمر جميل، لكن بما يحافظ على كبريّائنا، ولا يمسّ كرامتنا ليجعله أجمل. التعبير عن عدم قدرتنا على تلبيةِ أمرٍ طُلبَ منا في وقتِ شدّة وانشغال ليس بشيء مخجل لنستحي من فعله، والاستئذان للانصراف من أجل القيام بشيء نحبّه هو حقّنا، وليس شرطا أن يُقابله الآخر مِنّا بابتسامة قبول مصطنعٍ مع إضمار مشاعرَ سلبية في الخفاء. أضف إليه سلوك المواجهة أثناء الخلافات ووضع بعض النّقاط على الحروف ليستدرك الطرف الآخر فيما آذانا، وما الذي أزعجنا منه، بدل التّكتّم والصمت لأنه سلوك خاطئ يجعلنا نسيء فهم الآخر، ويسيء بدوره فهمنا. كما أنه علينا أن نوقِن أنّ كلّ شخصِ يمر في حياتنا فهو يملكُ رسالة إلينا، وما إن يؤدّيها حتى يهمّ بالرحيل. فنحنُ مرسَلون إلى حياة الآخرين، والآخرون مرسَلون إلينا، وكلانا مكلّفٌ بإيصال رسائله في وقتها.

يقوم نظام العلاقات يقوم إحسان الظنّ، وإسقاط الأشياء على أنفسنا أولا قبل أن نفرضها على الآخرين. يقوم على الحسنى والمحبّة الخالصة في الله قبل أيّ مصلحة أو منفعة. أساسه الودّ الأصيل لكي لا يكون الجفاء دخيلا. والأهم من هذا، هو التخلص من الأقنعة المزيّفة التي من شأنها أن تفقدنا صدق المشاعر، وتُنسينا ملامحنا الأصلية، وتجعلنا نتوه في دروب الحياة فاقدين شخصيتنا، ولاهثينَ وراء غاية لا تُدرك وهي التّنقيب عن الرّضا في عيون الآخرين بينما منبعه منّا وفينا، بل قابع بين جنبينا.

1xbet casino siteleri bahis siteleri